28 مايو 2019
لن يخطئ الجزائريون
لجمعة أخرى يستمر الجزائريون في الخروج والتظاهر السلمي، رافضين عروض النظام السياسي الذي جعل رجلاً مريضاً في واجهته يوجهه كيف شاء، ويطالبون بالتغيير الجذري الديمقراطي وبإنهاء عهود الفساد والاستبداد.
وقد فاقت إطلالات الجيش على التلفزيون الرسمي أخيراً عند انطلاق المسيرات، ظهور الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه، إذ بلغت بشكل مباشر ما بثه التلفزيون الرسمي الجزائري خمس مرات، التي أكد في واحدة منها أنه مسؤول عن الحل، بمعنى أنه ليس مستعداً البتة التنازل مرحلياً عن وجوده وحضوره في المشهد السياسي الوطني الجزائري.
هل ينجح الجزائريون أم يتكرر سيناريو 1988 و1990، اللذان شهدا تظاهرات أعنف، ثم التوى النظام السياسي آنذاك المختفي في الكواليس، وبثّ العنف وصنع فزاعة الإرهاب، ثم جعل يسلّه شيئاً فشيئاً حتى استتب له الأمر كله؟
ربما ومن وجهة نظر شخصية، قد تكون تجربة الجزائر في تولي العسكر دفة القيادة السياسية سابقة قليلاً، ولو باختلاف في التفاصيل قليلاً عن التجربة المصرية: شعب خرج، وانطلقت معه أسطوانات وتحركات داخلية وخارجية، تجاوب "تبين في ما بعد أنه مناورة"، صعود الإسلاميين "الجبهة بالجزائر والإخوان بمصر"، خطأ في التقدير من كل الفرقاء ومن فئات الشعب، وعود وتوافقات ما لبث الجيش أن انقض عليها، ثم حكم العسكر ومجازر وفزاعة الإرهاب... والبقية معروفة.
وعلى الرغم من كل ما يحاك ويرسم ويطبخ في دهاليز السياسة، وخبث ومكر أصحابها، نجح الجزائريون، وعلى خلاف المتوقع، في الخروج والتظاهر، إذ ظلت الجزائر هادئة والمنطقة تغلي.
شعب جزائري عظيم في تضحياته وبسالته وتاريخه! قدم الدليل حتى الآن، على حضاريته ومدنيته وسلمية مسيراته ورقيّه، الذي برهن أن الشعوب لا تموت، وأن الهبات والتحركات لا تحكمها مراكز ترصد ولا دراسات ولا توقع معين، وأن ما عجزت عنه العلوم الإنسانية من ضبط والتحكم في الحركيات السياسية حقيقة، يؤكد أن المفاجآت ممكنة، وقد تكون تهزّ وتهدّ أنظمة الجبر والقهر والفقر، وتبثّ الرعب في أعتى الديكتاتوريات حنكة ودهاءً.
أمام الجزائريين اليوم دروس تاريخهم المجيد، العامر بالشهداء، وأمامهم المنطقة بتجاربها، وأمامهم كتاب الكون... في خروجهم سنة 1988 أعطوا الشهداء، إذ قدر العدد بما يزيد عن خمسمائة ناهيك عن آلاف المعتقلين، التي بعد ذلك، فرضت تنازلات النظام السياسي آنذاك، والشاذلي بن جديد على رأسه، من إشاعة أجواء الحرية نسبياً، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. ثم ما لبثت التحركات الداخلية والخارجية أن أجهضت المحاولة وحولتها إلى تراجعات ومحاكمات واعتداءات وتعسفات وانتهاكات. ليشكل صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1991، الذريعة الكبرى للتدخل الأجنبي، والمقص الداخلي الذي حولها إلى عشرية سوداء وسنوات عجاف، والتي أجبر فيها بن جديد على الاستقالة، وإلغاء نتيجة الانتخابات، ومن ثم إقصاء الإسلاميين من التدبير الرسمي الذين اختارهم الشعب بنزاهة، لأول مرة في تاريخ الجزائر، في سياق دولي معلوم آنذاك، ثم تم اغتيال محمد بوضياف الذي لم يمض على تعيينه إلا القليل في ظروف غامضة، ليتصدر الجنرال خالد نزار المشهد، مدعوماً بجهات إقليمية ودولية، ما زالت تتابع الحراك الجزائري، وقد رأينا زيارة قائد الجيش قايد صالح الإمارات في شهر فبراير/ شباط الماضي.
وبين صناعة الإرهاب وسفر وزير الخارجية هذه الأيام لروسيا، وتحركات ومناورات جارية وتصريحات ووعود تتقاطر، وتاريخ حقب سوداء، وتجربة جزائرية شعبية لا يمكن الاستهانة بها، ودهاء الأجهزة الداخلية والخارجية، وتشابك المصالح، وبين وبين.. هل ينجح أم يفشل الجزائريون ككل أم يرتهنون للخارج وللتدخلات والحسابات الضيقة؟
من الأخطاء القاتلة، اختصار المشكلة في إزاحة شخص رئيس مقعد، وإنهاء عهدة رابعة، أو خامسة. اختصار النظام الجزائري بكل أجهزته ودهاته وثعالبه، العجوز، في اسم واحد، أو اسمين، أو جهاز وجهازين، من كبرى الطامّات التي ضربت مصر وقصمت تظاهراتها يوماً، وتونس، وبقية الحراكات العربية، فما أفاق الناس إلا واكتشفوا أنهم قد خدعوا، وأنهم كانوا أمام مناوراتٍ محبوكة، وسيناريوهات تعدّ وتطبخ بعناية، وتبحث لها عن الدعم الداخلي والخارجي، كي تنجح.
والحل الذي يقترحه العقلاء، وما بلغوه من نضج، يكمن في جبهة وطنية شعبية واسعة، لا تقصي أحداً، بشكل مسؤول وجدي وحازم صارم وقوي، تضع خطوط مرحلة انتقالية، يتم القطع فيها نهائياً مع الاستبداد والاستعباد، فلا هي إسلامية، ولا هي يسارية ولا ليبرالية ولا اشتراكية، بل مدنية ديمقراطية قانونية، يكون الشعب فيها مصدراً للسلطات، والقانون سياجاً وحامياً وحافظاً ومحتكماً إلى أن يتدرب الناس على الحكم، وتتقوى المؤسسات وينضج الأفق، ثم يأتي التدافع بين المشاريع ويصبح للشعب قراره واختياره الذي يحميه. الشعب حامياً يقظاً ومنتبهاً يحاسب ويراقب ويعاقب، عبر من يختارهم لذلك أو مباشرة بما تعرف بالديمقراطية التشاركية الحديثة.
إذاً، الحل بتوافق مكتوب "ميثاق" على مرأى ومسمع من الشعب وبموافقته، ثم وضع دستور ديمقراطي توافقي بين الكل يقطع مع المنطق القديم في التدبير والتسيير، ويوضح المسؤوليات ودور المؤسسات، ويضع كل الأجهزة في وضعها العادي المؤسساتي، وفي مقدمتها الجيش في ثكناته ومكانه الطبيعي، مقدراً ومحترماً، تحت سيادة دولة الحق والقانون.
طبعاً، سيكون من الحماقة والسذاجة أنّ هذه الوصفة سهلة المنال، وأن الأمر انتهى، وأن هذه المقترحات ستجد أرضاً مفروشة بالورود!
لا بد من نضج ورشد كل قوى الشعب وبكل فئاته، فإما أنها ستختار بين عهد وعهد، وتقطع نهائياً مع مرحلة، وتبدأ أخرى من جديد، ولا يحاول أي فريق أن يستفرد بالمرحلة أو يفكر في الاستيلاء على الحكم، بقدر ما تحضر المصلحة الوطنية، والتأسيس لانتقال ديمقراطي حقيقي، وتعددية فعلية، وبناء دولة حديثة مدنية كبقية تجارب العالم الرائدة بالجوار، أو أن الناس يحتاجون إلى مراحل ومراحل، ليصلوا إلى ضرورة القطع نهائياً مع أزمة الحكم وأنظمته الفاشية عربياً.
عوّدنا الجزائريون على الاستثناء في المنطقة.. ونرجو ذلك.
هل ينجح الجزائريون أم يتكرر سيناريو 1988 و1990، اللذان شهدا تظاهرات أعنف، ثم التوى النظام السياسي آنذاك المختفي في الكواليس، وبثّ العنف وصنع فزاعة الإرهاب، ثم جعل يسلّه شيئاً فشيئاً حتى استتب له الأمر كله؟
ربما ومن وجهة نظر شخصية، قد تكون تجربة الجزائر في تولي العسكر دفة القيادة السياسية سابقة قليلاً، ولو باختلاف في التفاصيل قليلاً عن التجربة المصرية: شعب خرج، وانطلقت معه أسطوانات وتحركات داخلية وخارجية، تجاوب "تبين في ما بعد أنه مناورة"، صعود الإسلاميين "الجبهة بالجزائر والإخوان بمصر"، خطأ في التقدير من كل الفرقاء ومن فئات الشعب، وعود وتوافقات ما لبث الجيش أن انقض عليها، ثم حكم العسكر ومجازر وفزاعة الإرهاب... والبقية معروفة.
وعلى الرغم من كل ما يحاك ويرسم ويطبخ في دهاليز السياسة، وخبث ومكر أصحابها، نجح الجزائريون، وعلى خلاف المتوقع، في الخروج والتظاهر، إذ ظلت الجزائر هادئة والمنطقة تغلي.
شعب جزائري عظيم في تضحياته وبسالته وتاريخه! قدم الدليل حتى الآن، على حضاريته ومدنيته وسلمية مسيراته ورقيّه، الذي برهن أن الشعوب لا تموت، وأن الهبات والتحركات لا تحكمها مراكز ترصد ولا دراسات ولا توقع معين، وأن ما عجزت عنه العلوم الإنسانية من ضبط والتحكم في الحركيات السياسية حقيقة، يؤكد أن المفاجآت ممكنة، وقد تكون تهزّ وتهدّ أنظمة الجبر والقهر والفقر، وتبثّ الرعب في أعتى الديكتاتوريات حنكة ودهاءً.
أمام الجزائريين اليوم دروس تاريخهم المجيد، العامر بالشهداء، وأمامهم المنطقة بتجاربها، وأمامهم كتاب الكون... في خروجهم سنة 1988 أعطوا الشهداء، إذ قدر العدد بما يزيد عن خمسمائة ناهيك عن آلاف المعتقلين، التي بعد ذلك، فرضت تنازلات النظام السياسي آنذاك، والشاذلي بن جديد على رأسه، من إشاعة أجواء الحرية نسبياً، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. ثم ما لبثت التحركات الداخلية والخارجية أن أجهضت المحاولة وحولتها إلى تراجعات ومحاكمات واعتداءات وتعسفات وانتهاكات. ليشكل صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1991، الذريعة الكبرى للتدخل الأجنبي، والمقص الداخلي الذي حولها إلى عشرية سوداء وسنوات عجاف، والتي أجبر فيها بن جديد على الاستقالة، وإلغاء نتيجة الانتخابات، ومن ثم إقصاء الإسلاميين من التدبير الرسمي الذين اختارهم الشعب بنزاهة، لأول مرة في تاريخ الجزائر، في سياق دولي معلوم آنذاك، ثم تم اغتيال محمد بوضياف الذي لم يمض على تعيينه إلا القليل في ظروف غامضة، ليتصدر الجنرال خالد نزار المشهد، مدعوماً بجهات إقليمية ودولية، ما زالت تتابع الحراك الجزائري، وقد رأينا زيارة قائد الجيش قايد صالح الإمارات في شهر فبراير/ شباط الماضي.
وبين صناعة الإرهاب وسفر وزير الخارجية هذه الأيام لروسيا، وتحركات ومناورات جارية وتصريحات ووعود تتقاطر، وتاريخ حقب سوداء، وتجربة جزائرية شعبية لا يمكن الاستهانة بها، ودهاء الأجهزة الداخلية والخارجية، وتشابك المصالح، وبين وبين.. هل ينجح أم يفشل الجزائريون ككل أم يرتهنون للخارج وللتدخلات والحسابات الضيقة؟
من الأخطاء القاتلة، اختصار المشكلة في إزاحة شخص رئيس مقعد، وإنهاء عهدة رابعة، أو خامسة. اختصار النظام الجزائري بكل أجهزته ودهاته وثعالبه، العجوز، في اسم واحد، أو اسمين، أو جهاز وجهازين، من كبرى الطامّات التي ضربت مصر وقصمت تظاهراتها يوماً، وتونس، وبقية الحراكات العربية، فما أفاق الناس إلا واكتشفوا أنهم قد خدعوا، وأنهم كانوا أمام مناوراتٍ محبوكة، وسيناريوهات تعدّ وتطبخ بعناية، وتبحث لها عن الدعم الداخلي والخارجي، كي تنجح.
والحل الذي يقترحه العقلاء، وما بلغوه من نضج، يكمن في جبهة وطنية شعبية واسعة، لا تقصي أحداً، بشكل مسؤول وجدي وحازم صارم وقوي، تضع خطوط مرحلة انتقالية، يتم القطع فيها نهائياً مع الاستبداد والاستعباد، فلا هي إسلامية، ولا هي يسارية ولا ليبرالية ولا اشتراكية، بل مدنية ديمقراطية قانونية، يكون الشعب فيها مصدراً للسلطات، والقانون سياجاً وحامياً وحافظاً ومحتكماً إلى أن يتدرب الناس على الحكم، وتتقوى المؤسسات وينضج الأفق، ثم يأتي التدافع بين المشاريع ويصبح للشعب قراره واختياره الذي يحميه. الشعب حامياً يقظاً ومنتبهاً يحاسب ويراقب ويعاقب، عبر من يختارهم لذلك أو مباشرة بما تعرف بالديمقراطية التشاركية الحديثة.
إذاً، الحل بتوافق مكتوب "ميثاق" على مرأى ومسمع من الشعب وبموافقته، ثم وضع دستور ديمقراطي توافقي بين الكل يقطع مع المنطق القديم في التدبير والتسيير، ويوضح المسؤوليات ودور المؤسسات، ويضع كل الأجهزة في وضعها العادي المؤسساتي، وفي مقدمتها الجيش في ثكناته ومكانه الطبيعي، مقدراً ومحترماً، تحت سيادة دولة الحق والقانون.
طبعاً، سيكون من الحماقة والسذاجة أنّ هذه الوصفة سهلة المنال، وأن الأمر انتهى، وأن هذه المقترحات ستجد أرضاً مفروشة بالورود!
لا بد من نضج ورشد كل قوى الشعب وبكل فئاته، فإما أنها ستختار بين عهد وعهد، وتقطع نهائياً مع مرحلة، وتبدأ أخرى من جديد، ولا يحاول أي فريق أن يستفرد بالمرحلة أو يفكر في الاستيلاء على الحكم، بقدر ما تحضر المصلحة الوطنية، والتأسيس لانتقال ديمقراطي حقيقي، وتعددية فعلية، وبناء دولة حديثة مدنية كبقية تجارب العالم الرائدة بالجوار، أو أن الناس يحتاجون إلى مراحل ومراحل، ليصلوا إلى ضرورة القطع نهائياً مع أزمة الحكم وأنظمته الفاشية عربياً.
عوّدنا الجزائريون على الاستثناء في المنطقة.. ونرجو ذلك.
مقالات أخرى
29 مارس 2019
23 أكتوبر 2018
19 يوليو 2018