لم تكن بعيدة

18 يوليو 2016
عندما يكون التعليم نوعاً من التدجين (فرانس برس)
+ الخط -

لم تكن الحرب بعيدة يوماً ما. كانت حاضرة بأقنعة شتى ومظاهر عديدة. حتى في ما كنا نظنها أيام سلم وأمان و"رخاء"، كانت بذورها تتهيأ في الداخل من قبل أن تفضح الحقيقة وتعلن المكبوتات دفعة واحدة، وتكشف الهمجية عن نفسها. كانت الحرب نوعاً من الدائرة الاجتماعية المغلقة حيث لا يتجاوز الأحفاد تقاليد الأجداد قدر ما يرتدون إليها، كانت التقهقر والانغلاق، كانت قوة الأمر الواقع الخارجة عن كل الضوابط الأخلاقية والأعراف الإنسانية، كانت شيئاً من الإعاقة اليومية والمرافقة الجامدة والصوت المكتوم والعلاقة الكريهة التي تنشر شبكتها من فوق المجتمع، ضاربة الكل بالكل وفاصلة بين الجميع في آن واحد. كانت تهديداً مبطناً وخوفاً مقلقاً وسبيلاً سهلاً، فهي الفرق السريّ وهي الجهة الأخيرة، بل هي المحدد والعامل الفارق، وما دونها ليس سوى مظهر وحسب.

شيء منها موجود في فضاء المدرسة، تلك التي تحولت إلى ثكنة عسكرية، وآخر في الشارع والسوق حيث السيادة للأقوى والأكثر فساداً، وثالث يكمن لك في البيت، عندما تخلو إلى نفسك. الحرب هي ما تحفظه عن ظهر قلب، مضطراً، لكنك في الحقيقة تكرهه وتمقته وتنتظر أقرب فرصة كي تلفظه من جسدك وكيانك كله. الحرب هي ما تراه يتكرر في العلاقات وشبكة المصالح القهرية والفساد الطاحن. ثم إن الحرب هي ما تقوله بينك وبين نفسك وأنت داخل جدران البيت الأسري الذي توهم نفسك أنه ملاذ آمن.

عندما تغلق دونك الأبواب، وعندما يسود النفاق، وعندما تتآكل الرغبة في غد أفضل، ثم تجف وتيبس وتقسو نواتها على نفسها، عندما يكون الحدّ الأدنى للحياة هو الحد الأصعب، عندما يكون الحلم وجهاً من وجوه الوهم، عندما يكون مدار الوظيفة الحكومية العملَ الأناني والأفق الضيق والتنفّع والابتزاز، عندما يضيق الحيز الفردي ثم يكاد يمّحي ويتحول الهواء نفسه إلى اختناق، عندما تؤجل حياتك، وترى أنها غدت من دون جدوى، عندما يكون التعليم نوعاً من التدجين، ويكون العمل شكلاً من أشكال الكسل، عندما يراوح كل شيء في مكانه، ولا تتبدل سوى الأقنعة. كانت الحرب تتعفن في البطالة وتسري في دم الفقر.

كانت الحرب، بما هي فوضى وعنف وقسوة وتدمير وإلغاء، موجودة في العقل من قبل أن تتحول إلى مادة في اليد، كانت شيئاً من العتاد النفسي. كانت الحرب تربية على قبول الضعف والرضى بالخطأ، كانت في التواطؤ والاستعداد للغدر والخيانة، كانت في تحويل اليأس إلى قاعدة شعبية عامة، وفي حرمان العقل من التفكير. كانت الإحساس بالخوف والشعور بالمهانة، كانت في أن ينأى الكل عن الكل ويترك الجميع الجميع، كانت نوعاً من التخلي المسبق والاستعداد الآلي.


المساهمون