لم أكن موافقاً على الحياة

17 ديسمبر 2015
أنا كنز ذاكرتي (الفيسبوك)
+ الخط -
لا أدري إن كان ما حدث طبيعياً أم غريباً، هل كان على إحدى الفكرتين أن تنتصر.. فكرة الموت، وفكرة الكتابة؟

انتصرت فكرة الموت، ومتُّ ميتةً لم تُحدث كثيراً من الضجة. لا أدري في ذلك اليوم كيف أصابني النعاس فجأة في فترة غروب الشمس، في الساعة المخصصة للتأمل، والكتابة.. الكتابة؟ لا أظن.. سأكون كاذباً، هي الساعة المخصصة للتفكير في الكتابة.


التفكير في الكتابة أخذ وقتاً طويلاً، استنزف عمري كله، وفي الأخير.. لم أكتب شيئاً!
هل يجب أن أكون حزيناً من هذه الفاجعة التي أصابتني؟ هل الفاجعة هي الموت، أم ضياع فرصة الكتابة؟

لم يكن تأثير الموت سلبياً للدرجة التي يتوقعها الأحياء، قد تكون الصعوبة فقط في أن تلفظ النفس الأخير فقطن إذ إن الفرق بين الأنفاس التي يُطلقها الإنسان طوال حياته، تسبح ذهاباً وإياباً، كي لا تشعر أن الأوكسجين يخونك، لكن النفس الأخير له طقسٌ مختلف.. هذا النفس هو الوحيد الذي يحظى بفرصة الصعود.. الصعود إلى السماء!

ها أنا الآن كتلة من الضوء، لا أشعر بأي ثقل سوى ثقل الفكرة التي أعاني منها الآن، وهي الذاكرة التي امتلأت بفكرة التفكير بالكتابة. هذا الحجم الهائل من التفاصيل التي ظلت معلقة بذاكرتي ما بين إمكانية كتابتها وعدمه.

إلى الآن لم أكوّن صداقات مع باقي الأرواح هنا، لكني أعامل الجميع بلطف، وأحياناً أشاركهم أطراف الحديث كي أفهم هذا الفضاء الآخر المنعتق من لعنة الزمن.
حاجتي للانعزال تكمن في حاجة ملحة لم أشعر بها في حياتي.. الحاجة الشديدة للكتابة.

حين أعاود التفكير في مسألة الرغبة في الحياة، هذه الرغبة التي قد لا أستطيع الانفكاك منها، لا أجد سبباً واحداً كان يدفعني لذلك، سوى أن أظل مع من أحب، لا يوجد عندي دافعٌ آخر للحياة.. أنا فعلاً لم أكن موافقاً على الحياة. هكذا مضت الحياة، كنت قد قضيت عمري، وأنا أحاول ألا تكون حياتي بلا جدوى.

الآن فقط، أرى أن الحياة، ومن يحيا عليها، كالغريق الذي لا يستطيع التأمل بقاع المحيط، الغريق لا يفكر سوى في حالة غرقه، إما أن ينجو أو أن يختنق.. لا نجاة من الحياة إذاً!

من الممكن أن أسميه منعطفاً، وهو أن أكتب أو لا أكتب، هل الكتابة هي رفض لصورة وجودي؟ وبالتالي تكون الكتابة هي خلق وجود يناسبني. أي أن لا أكتفي بالحلم. أظن أن من يقرر الكتابة يدرك أن الحياة لا تكفي للحلم، لكن لماذا نعيد كتابة الحياة؟ لماذ نؤرخ للحياة؟ حتى حين أكتب عن الموت، أنا لا أتعدى حدود الحياة!.

نحن نريد دائماً أن نبعث رسائل خفية للموت بأننا نفهم اللعبة جيداً، ولن نتفاجأ بأي حالة انخطاف تفصل جسدنا عن روحنا.

نعود إلى المنعطف، أن تكتب أو لا تكتب، في حال وقعت في فخ التفكير بالكتابة، وليس فعل الكتابة.. ما هو المنعطف المقابل لذلك المنعطف؟

هناك عالمٌ "ليس قائم" بحد ذاته بعد الموت، هناك أشياء تُخلق لمجرد التفكير بها، لدرجة أن المرء يتساءل بينه وبين نفسه.. هل كانت الحياة بأكملها مجرد "عصف ذهني" لشخص واحد، أو إلهٍ واحد؟!

هل نغفر لهذا الإله الذي أنسننا؟ أم علينا أن نشكره، لأنه أتاح لنا فرصة أن ندخل بالتجربة.. وما هي التجربة؟ هل التجربة تكمن في مدى قدرتنا في "التخلّي" عن الإله الذي بداخلنا؟!

هناك شيء محير بالفعل، وهو تعريف ما يسمى "الذات". من أنا، وما أريد أن أكون.. هل أنا روح إنسانٍ ميتٍ؟ أم أنا إله استعاد ألوهته؟ أم عليَّ ابتكارُ "ذاتٍ" جديدةٍ؟

الموت ليس نهاية مرحلة اسمها الحياة، الموت غربال الحياة، الموت يغربل هذا المرحلة التي هي أشبه بأوراق مسودة أولى لنص ما، هو التخلص من الرداءة، والسذاجة، وحالات الفراغ، كالكلمات التي تركتها ضائعة، الكلمات التي كان من الممكن أن تتحول إلى "فعل حياة" لو وضعت بعد كلمة أو جملة "فاصلة" أو "نقطة نهاية".. أو عنواناً لنصٍ من دون نص!

المرحلة الأولى ما بعد الموت هي مرحلة التأمل في الخلاصات، المفاصل المتينة التي حُفرت بالذاكرة بإرادتي، وبغير إرادتي.
أنا الآن إذاً لست أنا، وأنا في الوقت ذاته. أنا كنز ذاكرتي!.

(سورية)
المساهمون