لماذا يصدق الناس الأكاذيب ثم يقدسونها؟

13 مايو 2019
+ الخط -
كعادتنا نحن العزاب الذين نعيش في بلاد أخرى، متأقلمين مع أوطاننا الجديدة، نتعلم فيها ونعمل، نصل الليل بالنهار عملاً وسعياً وتعلماً، لتأتي العطلة بمثابة الفرصة للراحة والترويح والنزهة..

حملنا أنفسنا يوم الأحد.. خرجنا من منازلنا، متوجهين صوب إحدى الحدائق، أخذ منّا الجوع مأخذه، توقفنا عند أحد المطاعم المتواضعة، طلبنا أكلا، وفي هذه الأثناء طلبت من العامل أن يناولني شراب الفانتا، وبعد قليل جاء بعلبة برتقال تنتمي لماركة أخرى، قلت له: هذه ليست فانتا، قال: بلى، هذه الفانتا، قلت له: نعم هذه هي. تبسم صاحبي وقال: هذه ليست فانتا، قلت له: نعم، قال: لماذا وافقته إذاً؟

قلت له: إنها الكذبة التي يتوجب علينا أن نصدقها كي لا ندفع ضريبة التغيير، الصدق له ثمنه، لو كذبته، لكان يتوجب عليّ أن أخرج من المطعم وأذهب إلى أحد المحلات لجلب علبة الفانتا لأقول له: هذه هي وليست التي جلبت، نحن أقوام نكذب على أنفسنا، ومع مرور الأيام نصدق الكذبة التي اخترعناها نحن لتكون حقيقة، لكنها كاذبة للأسف.


أستغرب من سلوكنا في كثيرٍ من المحافل، أرى طلبتي، ما بين الفينة والأخرى، يقولون أستاذ: نحتاج درسك، لأجل عمل عيد ميلاد لصديقنا، سنجعل هذا الحدث مفاجأة له، إنها الكذبة التي تتربى عليها الأجيال، المفاجأة التي يعلم بها الجميع، بمن فيهم الشخص الذي يتوجب عليه أن يفاجأ بالحدث، هو يعلم بكل التحضيرات، ولكنه سيدخل "متفاجئاً"، كل هذا لأجلي، كم أنتم رائعون، لقد فرحت بهذه المفاجأة كثيراً، للأسف كذب على نفسه وعاش دور الذي لا يعلم. لقد تحول كثير من حياتنا إلى كذبة، نخترعها، ثم نروجها، بعدها نتعامل معها على أنها حقيقة مقدسة. كم خرافة ألفها إنسان ونقلها عنه آخرون وأصبحت بعدها حقيقة مقدسة لا يمكن حتى إنكارها.

لا زلت أذكر الشيخ محمد الصفار رحمه الله، الذي استشهد هو وعائلته في حرب التحرير، في إحدى محاضراته، حينما تحدث عن حقيقة أننا مجتمعات تحب أن تصدق كل شيء تسمعه بلا تثبت، فيروي للحاضرين أنه أراد أن يصلح مغسلة بيته، فجاء بشخص مختص في هذه الأعمال، وبعد الانتهاء من إصلاحها، قال: لاحظت أن المغسلة قد فُطِرت، قلت له: إنها فطرت من جديد، قال له: يا شيخ لا تخف هي ترجع تنصلح من جديد، إنها الحقيقة المرة، أن تكون ما بين أن تقول له: إنك كاذب وتدفع ضريبة تكذيبك له، وبين أن تصدق وترتاح وتوفر على نفسك مصاريف أخرى، أجابه قائلا: لا شك أنها ستعود لحالتها الطبيعية يوماً ما.

يجول بخاطري دائما حديث ذاك الخطيب قبل عقد من الزمن، حين استطاع بأسلوبه أن يشعل عاطفة قلوبنا، فانتهى دور العقل، وأخذ يسرد لنا قصة هي محض ضرب من الخيال، وأخذ الحاضرون يتفاعلون..

وعندما استيقظت من غفلتي العاطفية، وتحول الموضوع إلى العقل، قلت: كيف لنا أن نسلم عقولنا؟.. ونعطي المجال لإعلامي أو خطيب أو كاتب أن يستغفلنا بهذ الصورة، فيمرر علينا أفكاره المنتهية الصلاحية وغير الفاعلة. لقد مرروا عليك يا صديقي كثيراً من القناعات التي لو وقفت وقفة جادّة مع عقلك وجلست تتأمل بها، لعلمت أنها ضرب من الأكاذيب والأساطير، وكثيرة هي الأفكار التي غرِست فينا بهذه الطريقة، من خلال أستاذ أو معلم أو دكتور أو شيخ أو إعلامي نحبه فنضفي على كلامه ثوب القداسة، فتتراكم في عقولنا أفكار مكذوبة، ندخل لأجلها معارك مع الآخرين، وفي نهاية الأمر لا تعدو هذه الأفكار عن أن تكون اجتهادات لإنسان مثلك ليس أكثر!

دلالات