02 نوفمبر 2024
لماذا يحتجّون في تونس؟
بعد سبع سنوات من الثورة، ما زال الفعل الاحتجاجي حاضرا بامتياز في تونس، وما زالت الحملات المعارضة لقرارات حكومية حدثا متواترا، يحرّك الشارع من حين إلى آخر، ويستهوي الغاضبين على سياسات النظام الحاكم. وتلك الحالة الاحتجاجية غير مستغربة في بلدٍ يتمتّع بمجتمع مدني حيّ، وأحزاب معارضة فاعلة، ويرتكن إلى دستورٍ تقدّمي، يكفل حرّية التفكير والتعبير، ويضمن الحقّ في والتجمهر والتظاهر. واللافت في موجة الاحتجاجات التي تزامنت، أخيرا، مع إطلاق حملة "فاش نستنّاو" (ماذا ننتظر؟) أنّها عارمة، امتدّت إلى عدّة محافظات، واستقطبت طيفا واسعا من المحتجّين المنتمين إلى مناطق مختلفة وأحزاب متعدّدة وفئات عمرية واجتماعية متنوّعة، وراوحت بين العنف والسلمية.
والواقع أنّ الإقبال المتزايد على الاحتجاج ليس فعلا استعراضيّا عابرا، بل هو سلوك اجتماعي واع، توجّهه عدّة أسباب، ويحمل طيّه عدّة دلالات. فسؤال "فاش نستنّاو" إنكاري، يستنهض الجموع، ويستهجن صمتهم وترقّبهم، ويستبطن تحذيرهم من مصيرٍ مجهولٍ في حال استسلامهم لمحامل قانون المالية 2018 الذي نصّ على زياداتٍ غير مسبوقة في الموادّ الغذائية والمحروقات والخدمات في مقابل تجميد كتلة الأجور، وتعليق الانتدابات في القطاع العام. وهي تدابير موجعة تمسّ الوضع المعيشي لعموم المواطنين، وترهق مقدرتهم الشرائية، ولا تقدّم حلولا عمليةً لمعضلة البطالة، وتنذر بتهرئة الطبقة الوسطى، وتحويل الهرم الاجتماعي إلى طبقةٍ من الأغنياء وأخرى للفقراء. لذلك تنادى المتظاهرون بشعاراتٍ من قبيل "الشعب يريد إسقاط الميزانية" و"يا مواطن يا مقموع زاد الفقر... زاد الجوع..."، ولفتوا الأنظار إلى تدهور الأوضاع المعيشية لسكّان المناطق الطرفية "يا حكومة الالتفاف الشعب يعاني في الأرياف". ومن ثمّة، فالخطاب الاحتجاجي مباشر وصريح، ويصدر عن خلفية مطلبية تنموية بالأساس، فضيق النّاس بارتفاع الأسعار، ووقوفهم على انتشار الفقر (25 % من مجموع السكان)، وعدم تراجع نسبة البطالة (15%) ووعيهم بحالة التهميش التي تعاني منها الجهات الداخلية، ذلك كله راكم الشعور بالغضب والإحباط، ودفع النّاس إلى الشوارع. لكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ أسبابا غير مباشرة أخرى، أسهمت في إنتاج الاحتجاج، لعلّ أهمّها تآكل جسر الثقة بين الحاكم والمحكوم، وشعور معظم المواطنين بأنّ الحكومات المتعاقبة التفّت على مطالب الناس وتطلّعاتهم إلى العدالة والشفافية والكرامة، ولم تف بوعودها المتعلّقة بتمكين الشباب، وتحسين مستوى التشغيل، وتحقيق التنمية الجهوية الشاملة، وهو ما ساهم في تعميق
الفجوة بين الطرفين (الحاكم والمحكوم)، وأدّى إلى اتّساع كتلة الإحباط، وتشكّل ما يُمكن أن يصطلح عليه "حزب الاستياء في تونس" الذي يضمّ الذين لم تنصفهم الثورة، ولم يؤدّ الانتقال السياسي إلى تحسين وضعهم المعيشي. وتكمن المعضلة في أنّ عدم معالجة حالة الاستياء تلك، والاكتفاء بمهادنتها أو تجاهلها من دون البحث في أسبابها وكيفيّات تجاوزها يثمر مزيدا من الاحتقان، ويُنتج شخصياتٍ مأزومةً، تنفلت من حين إلى آخر من عقال السلمية، لتعبّر عن سخطها من السياسات الحكومية بطريقة عنيفة، تجلّيها أعمال الاحتجاج الفوضوي، والإضرار بالممتلكات العامّة والخاصّة. ويبدو الاحتجاج في جانبٍ مّا احتجاجا على العنف الرّمزي للدولة (التهميش ـ الإقصاء ـ غياب الحوار…) وصرخة في وجه البيروقراطية القديمة، وسياسات التأجيل والمماطلة في الإدارة التونسية. كما أنّ توجّه المتظاهرين، مرّاتٍ، نحو مقرّ وزارة الداخلية، متنادين بشعار "وزارة الداخلية وزارة إرهابية" يستبطن امتعاضا من أداء المؤسّسة الأمنية في تعاملها مع المواطنين عموما، والمحتجّين خصوصا، فالعلاقة بين الطرفين ما زالت مأزومة، والظاهر أنّ المؤسّسة المذكورة لم تواكب بعدُ مستجدّات الانتقال الديمقراطي، ولم تتجدّد هيكليا وإجرائيا بالشكل الكافي، حتّى ما زال يُنظر إلى البوليس على أنّه العصا الغليظة والقبضة الحديدية واليد القامعة. كما أنّ انهماك السياسيين في السياحة الحزبية والمنازعات الأيديولوجية، وصراعهم على المناصب، وتنكّرهم لوعودهم الانتخابية، وبقاءهم في أبراجهم العاجية بعيدا عن هموم المواطنين، زاد في تعميم الاستياء، وفي تغذية فتيل الاحتجاج.
"جئت إلى هذا العالم لكي أحتجّ".. هكذا حدّث مكسيم غوركي، وكذا الشأن في تونس بعد الثورة، فالنّاس يمارسون حقهم في الاحتجاج، ويشكّلون سلطة رقابية موازية لسلطة الدولة، ولسان حالهم يقول: "لا خوف.. لا رعب السلطة ملك الشعب/ الشارع ملك الشعب"، وهو ما يُخبر بحيوية التجربة الديمقراطية في تونس، وإعادتها الاعتبار للمواطن، بما هو كائن مدني/ حيّ/ فاعل في الشأن العامّ، ومؤثّر في أصحاب القرار. لكنّ الديمقراطية وحدها لا تكفي لتحقيق الازدهار والاستقرار والرفاه. لذلك الحاجة أكيدة إلى بلورة خطّة إنقاذٍ تنموية واقعية شاملة، والحاجة أيضا أكيدة لنشر ثقافة الاحتجاج، حفاظا على السلم الاجتماعي والعيش المشترك، وتفاديا لمهواة العنف المؤدّي إلى تخريب الاقتصاد والتجربة الديمقراطية نفسها.
والواقع أنّ الإقبال المتزايد على الاحتجاج ليس فعلا استعراضيّا عابرا، بل هو سلوك اجتماعي واع، توجّهه عدّة أسباب، ويحمل طيّه عدّة دلالات. فسؤال "فاش نستنّاو" إنكاري، يستنهض الجموع، ويستهجن صمتهم وترقّبهم، ويستبطن تحذيرهم من مصيرٍ مجهولٍ في حال استسلامهم لمحامل قانون المالية 2018 الذي نصّ على زياداتٍ غير مسبوقة في الموادّ الغذائية والمحروقات والخدمات في مقابل تجميد كتلة الأجور، وتعليق الانتدابات في القطاع العام. وهي تدابير موجعة تمسّ الوضع المعيشي لعموم المواطنين، وترهق مقدرتهم الشرائية، ولا تقدّم حلولا عمليةً لمعضلة البطالة، وتنذر بتهرئة الطبقة الوسطى، وتحويل الهرم الاجتماعي إلى طبقةٍ من الأغنياء وأخرى للفقراء. لذلك تنادى المتظاهرون بشعاراتٍ من قبيل "الشعب يريد إسقاط الميزانية" و"يا مواطن يا مقموع زاد الفقر... زاد الجوع..."، ولفتوا الأنظار إلى تدهور الأوضاع المعيشية لسكّان المناطق الطرفية "يا حكومة الالتفاف الشعب يعاني في الأرياف". ومن ثمّة، فالخطاب الاحتجاجي مباشر وصريح، ويصدر عن خلفية مطلبية تنموية بالأساس، فضيق النّاس بارتفاع الأسعار، ووقوفهم على انتشار الفقر (25 % من مجموع السكان)، وعدم تراجع نسبة البطالة (15%) ووعيهم بحالة التهميش التي تعاني منها الجهات الداخلية، ذلك كله راكم الشعور بالغضب والإحباط، ودفع النّاس إلى الشوارع. لكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ أسبابا غير مباشرة أخرى، أسهمت في إنتاج الاحتجاج، لعلّ أهمّها تآكل جسر الثقة بين الحاكم والمحكوم، وشعور معظم المواطنين بأنّ الحكومات المتعاقبة التفّت على مطالب الناس وتطلّعاتهم إلى العدالة والشفافية والكرامة، ولم تف بوعودها المتعلّقة بتمكين الشباب، وتحسين مستوى التشغيل، وتحقيق التنمية الجهوية الشاملة، وهو ما ساهم في تعميق
"جئت إلى هذا العالم لكي أحتجّ".. هكذا حدّث مكسيم غوركي، وكذا الشأن في تونس بعد الثورة، فالنّاس يمارسون حقهم في الاحتجاج، ويشكّلون سلطة رقابية موازية لسلطة الدولة، ولسان حالهم يقول: "لا خوف.. لا رعب السلطة ملك الشعب/ الشارع ملك الشعب"، وهو ما يُخبر بحيوية التجربة الديمقراطية في تونس، وإعادتها الاعتبار للمواطن، بما هو كائن مدني/ حيّ/ فاعل في الشأن العامّ، ومؤثّر في أصحاب القرار. لكنّ الديمقراطية وحدها لا تكفي لتحقيق الازدهار والاستقرار والرفاه. لذلك الحاجة أكيدة إلى بلورة خطّة إنقاذٍ تنموية واقعية شاملة، والحاجة أيضا أكيدة لنشر ثقافة الاحتجاج، حفاظا على السلم الاجتماعي والعيش المشترك، وتفاديا لمهواة العنف المؤدّي إلى تخريب الاقتصاد والتجربة الديمقراطية نفسها.