لماذا نجحت العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا؟

15 يناير 2015
المناضل نيلسون مانديلا
+ الخط -

اتّبعت حركة مناهضة سياسات التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، طوال الخمسينيات، عددًا من أساليب الكفاح الوطني؛ في عام 1952 أعلن المؤتمر الإفريقي عن شنِّ «حملة تحد»، نظم خلالها عددًا من هذه الأساليب طوال حقبة الخمسينيات، تضمنت هذه الحملة مقاومة سياسة التمييز العنصري في مجال التعليم في الفترة من (1953ـ 1955)، وحركة مقاطعة الحافلات في الفترة من عام (1955 وحتى عام 1959) احتجاجًا على انخفاض الأجور، وقد أحرزت حركات مقاطعة الحافلات في مقاطعات إيفاتون وألكسندرا وجوهانسبرج نجاحًا شجع مواطني جنوب إفريقيا على الاستمرار في الاحتجاجات الوطنية.

بعد نجاح حزب المؤتمر الإفريقي بقيادة المناضل نيلسون مانديلا، وإجبار حكومة الأقلية على الاعتراف بالحقوق الدستورية الكاملة لكل المواطنين، أصبح لكل مواطن – بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه- حق التصويت والمشاركة في الانتخابات على أساس «one vote one man».

في نيسان/أبريل 1994 أجريت أول انتخابات برلمانية غير عنصرية، شارك فيها 86 بالمائة من الناخبين، وفي أيار/مايو من تلك السنة، اجتمع البرلمان الجديد لأول مرة بصفته جمعية تأسيسية، وفي أوساط التسعينيات من القرن الماضي أصبحت العملية الدستورية في جنوب إفريقيا المثال الكامل لعمليات الدساتير القائمة على مشاركة المواطنين.

الاستراتيجية الفعالة لحزب المؤتمر:

يشرح الزعيم مانديلا كيف جعل تنوع شعب جنوب إفريقيا قوة وليس ضعفاً، «ففي السابع والعشرين من شهر نيسان/ابريل 1994، أرسى شعب جنوب إفريقيا أمة على أساس التعهد بأننا سنمحو إرث ماضينا المجزأ؛ لكي نبني حياة أفضل للجميع. لم يكن هذا عهداً قطعناه باستخفاف، لقد دفع الملايين إلى بؤرة الفقر عمدًا عبر أجيال، ولكي يخلد نظام التفرقة العنصرية نفسه، كانت القوة الغاشمة وحدها هي التي تحافظ على النظام «الأبارتيد» ذاك، الذي ادعى أنه مكرس بإدارة السماء، فسلبنا جمعيًا إنسانيتنا، المقموعين منا والقامعين على حدٍّ سواء".

يتابع الزعيم مانديلا "ناضلنا خلال عقود من الزمان من أجل مجتمع غير مميز عنصريًّا، غير مميز جنسيًّا، وحتى قبل وصولنا للسلطة في الانتخابات التاريخية عام 1994، كانت رؤيتنا للديمقراطية محكومة بمبادئ من بينها مبدأ يقول: إنه لا يجوز أن يتعرض أي شخص أو تتعرض أي مجموعة من الأشخاص للاضطهاد أو الإخضاع أو التمييز بسبب العرق أو الجنس أو الأصل الإثني أو اللون أو العقيدة، وما إن وصلنا إلى السلطة حتى قررنا اعتبار تنوع الألوان واللغات مصدرًا للقوة، بعد أن كان يستخدم في الماضي للتفرقة بيننا، لقد ضمنا أن القانون الأساسي للبلاد – دستور وميثاق حقوق المواطنين – يعزز الوحدة الوطنية، ويوجه اهتمامًا خاصًا إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

ويواصل "لم يكن طريقنا نحو الاندماج جديدًا؛ إذ كان المؤتمر الإفريقي يدعو طيلة عقود إلى الوحدة الوطنية، وحتى في ذورة العنف والقمع عندما كان الاختلاط العرقي يُوصل للسجن أو الموت، لم نتخل أبدًا عن هدفنا في بناء مجتمع قائم على المساواة. والآن على الرغم من أن القوانين لم تعد تقوي الانقسامات القديمة، فإنها ما زالت ماثلة للعيان في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مناطقنا السكنية، وفي أماكن العمل، وفي اتساع شقة عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء. عندما تولينا مشروع تحويل مجتمعنا، كان أحد شعارات نضالنا: «التحرر من العوز»، وكان هدفنا القضاء على الجوع والفقر والأمية والتشرد، وضمان الحصول على الغذاء والتعليم، ورأينا الحرية صنوًا لا ينفصم عن الكرامة والإنسانية والمساواة بين البشر".

تكنيكات التلاحم بين السود والبيض:


1- المساواة في التوظيف

عند انتهاء نظام التفرقة العنصرية (الأبارتايد) في عام 1995، كان البيض يشكلون نسبة 13% من السكان، ويجنون 59% من الدخل الخاص، فيما كان الإفريقيون الذين تبلغ نسبتهم 76% من السكان يحصلون على 29%، وأظهر مسح أجري في عام 2000، وشمل 161 شركة كبيرة توظف 560 ألف عامل، أن البيض ما زالوا حتى ذلك الحين يحتلون 80% من المناصب الإدارية، كذلك كان الفارق العنصري في الأجور كبيرًا، وإن كان قد تناقص بنسبة كبيرة عن ذي قبل؛ إذ في أواخر تسعينيات القرن الماضي كان العمال البيض يكسبون أجورًا يزيد معدلها خمس مرات عن أجور الإفريقيين، رغم أن نصف هذا التفاوت كان يُعلّل بفارق التعليم والمكان.

في فترة ما بعد الأبارتايد، بدأت الحكومة الديمقراطية بتطبيق سلسلة من البرامج المصممة لتخفيض هذه الفوارق؛ قانون المساواة في التوظيف الصادر في عام 1998 يفرض على أصحاب العمل أن يقدموا معلومات عن مبالغ التعويض والمنافع في كل فئة مهنية على أساس العنصر والجنس، وأن يتخذوا الإجراءات الملائمة إذا كانت هناك اختلافات غير مناسبة في دخل العاملين، ويتعين على الشركات التي يفوق حجمها حدًّا معينًا أن تزود الدولة بتقارير سنوية توضح وتخطط لجعل قواها العاملة تمثل التركيبة السكانية على جميع المستويات بشكل أفضل.

يقول القانون أيضًا: إن نقص الخبرة اللازمة لدى فرد من مجموعة مشمولة بالحماية ليس سببًا كافيًا لتوظيف شخص آخر مكانه، ما دام طالب العمل يمتلك القدرة على اكتساب المعرفة اللازمة للقيام خلال فترة زمنية معقولة، بالإضافة إلى ذلك تحدد مواثيق تمكين السود لكل صناعة أهدافًا لنسب الأسهم التي يجب أن تنتقل ملكيتها إلى السود (الإفريقيين الأصليين، والملونين، والآسيويين)، كما نشرت مواثيق كهذه لقطاعات البترول والمناجم والمصارف، ويهدف هذا التوجه العام إلى نقل ملكية حوالى ربع الأسهم في جنوب إفريقيا إلى أيدي السود خلال عقد من الزمن أو نحو ذلك.

ماذا حققت هذه الجهود؟ قرابة نصف المديرين من المرتبة المتوسطة وربع المديرين من المرتبة العليا في جنوب إفريقيا هم اليوم من السود، مقابل لا أحد تقريبًا قبل عشر سنوات؛ كما حصل السود على ترقيات سريعة بشكل خاص في القطاع العام؛ إذ لا يوجد منافسون للحكومة، غير أن الحكومة التي رفعت عددًا كبيرًا ممن لا يتمتعون بمؤهلات كافية، اضطرت إلى توظيف عدد كبير من المستشارين لمساعدة هؤلاء؛ لكن ذلك الوضع تغير، فالفعالية قضية مطروحة للنقاش، حيث تعليمات المشتريات على أن الشركات التي يملكها سود تستطيع أن تطلب ثمنًا أعلى وتكسب عقودًا حكومية رغم ذلك، الأمر الذي يبقي أموالًا أقل للمصانع العامة كالطرق والمساكن والجسور.

أما بالنسبة لمواثيق تمكين السود، فلم يتضح بعد كيف سيمول نقل ملكية الأسهم هذه؛ لأن الممارسات الراهنة لتمكين السود لم تخلق منتجات جديدة أو شركات مستقلة جديدة لا تدعمها شركات كبيرة يملكها البيض، كما يقول المعلق المعروف «مولتشي موبيكي».

2- اللغات والدستور الجديد

حاولت جنوب إفريقيا توسيع مجالات الاختيار أمام الذين لا يعرفون الإنكليزية والإفريقانية بالدعوة إلى اعتماد 11 لغة رسمية معترفًا بها في الدستور (منذ 1994)، منها 9 لغات للسكان المحليين، بالإضافة إلى الإنكليزية والإفريقانية، ورغم وجود برنامج طموح للترجمة في المحاكم يبرز معظم الدول الأخرى، ما زال هناك تحيز لصالح الإنكليزية؛ فقد أظهرت دراسة عن المحاكم في كواكوا في «الولاية الحرة»، وهي منطقة يتكلم معظم سكانها لغة سيسوتو، أنه حتى عندما يكون القاضي والمدعي والمتهم إفريقيين ويتكلمون لهجة سوتو الجنوبية كلغة أم، فإن إجراءات المحاكمة تدار بلغة إنكليزية من الدرجة الثانية، وبمساعدة مترجم تعينه المحكمة يترجم من لغة سيسوتو، وإليها لفائدة المتهم.

كل ما سبق يُعتبر محاولات جادة من قبل المجتمع الجنوب أفريقي لتجاوز متاعب الماضي والإبحار نحو المستقبل بقوة وثبات، فقد قدمت تجربة دولة جنوب إفريقيا دروساً إنسانية مفيدة للشعوب والأمم التى تحاول بسط العدالة الاجتماعية على ربوعها العامرة.