مرت قرابة ثماني سنوات على أول عملية إرهابية شهدتها الساحة التونسية في 18 مايو/أيار 2011 في منطقة الروحية من ولاية سليانة، وصولاً إلى العملية الاستباقية الأخيرة التي تمت في قرية جلمة من ولاية سيدي بوزيد. وعلى الرغم من أن جماعات "السلفية الجهادية" المحلية والإقليمية مُنيت طيلة الفترة السابقة داخل تونس وخارجها بالفشل عسكرياً وسياسياً ودينياً، إلا أنها تمكّنت من تجديد قدراتها على الاستمرار، وعلى توجيه ضربات موجعة من حين لآخر إلى عدد من الأمنيين والعسكريين، اقترب عددهم حتى اليوم من مائتي ضحية في تونس. والسؤال المطروح هو: من أين تستمد هذه المجموعات قدرتها على تجديد خلاياها والاستمرار كتحدٍ خطير ورئيسي للأمن القومي التونسي، على الرغم من خسائرها وتراجع قوتها؟
تتمتع الخلايا النائمة والنشيطة بقدرة ملحوظة على الاختفاء والتحرك بعيداً عن الأضواء. وإذا كان عدد منها يتنقل بحذر شديد داخل المدن بما في ذلك العاصمة، من دون أن يتم التنبّه له، فإن خلايا أخرى تعيش في الكهوف والسراديب الطويلة والضخمة الموجودة في جبل الشعانبي الواقع في مدينة القصرين. هذا الجبل الذي سبق للمجاهدين الجزائريين والتونسيين أن اتخذوا منه قاعدة مهمة وملجأ حصيناً خلال مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. وعن الأسباب التي لا تزال تحول دون محاصرة العناصر المسلحة المختبئة في هذا الجبل بعد كل هذه السنوات، فإن المسألة تُعتبر من الجانب الأمني معقّدة وليست بسيطة كما يعتقد الكثيرون. فهذا الجبل يحتل مساحة هامة تمتد إلى حدود 100 كيلومتر مربع، ويحتوي في داخله على كهوف ومسارب وطرق تمتد إلى عدد من المناطق الجبلية وتربط ولاية القصرين بولايتي جندوبة والكاف الواقعتَين في الشمال الغربي.
اقــرأ أيضاً
ويشرح العميد مختار بن نصر لـ"العربي الجديد"، وهو عسكري متقاعد ويترأس حالياً "اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب"، أن خمسين كيلومتراً من مساحة جبل الشعانبي تقع داخل التراب الجزائري. وخلال الكفاح الوطني، تمكّن نحو عشرين ألف مقاتل من الاختباء داخل هذا الجبل، ولم يستطع الجيش الفرنسي الوصول إليهم. لهذا، وعلى الرغم من قلة عدد الإرهابيين الذين قد لا يتجاوزون حالياً المائتي عنصر، فإن الجيش التونسي بمعداته الجديدة التي حصل عليها منذ سنة ونصف، لا يزال يجد صعوبات كبيرة في القضاء عليهم.
أما العامل الثاني الذي يشير إليه بن نصر، فيتعلق بالحاضنة الاجتماعية الضيقة التي تستفيد منها هذه الخلايا، إذ من المؤكد أن التيار "السلفي الجهادي" لم يتمكن طيلة المرحلة الماضية من كسب تعاطف التونسيين الذين تضرروا كثيراً من العمليات التي قام بها هؤلاء والتي أحدثت ضرراً بالغاً بقطاع السياحة وبالاقتصاد المحلي. وهناك رفض قاطع من قبل عموم الشعب لدعوة هؤلاء الخروج على الدولة وتكفيرها، وتجلّى ذلك بوضوح في مختلف المناسبات وفي أعقاب كل عملية إرهابية. لكن الأبحاث الأمنية والعسكرية أثبتت أن هذه الجماعات استفادت من بعض الروابط العائلية الضيقة داخل الأحياء والمناطق الجبلية، حيث يعتبر من "العار" تسليم الأخ أو ابن العم إلى الدولة، أو رفض مساعدته في حالات الضيق. فعلى سبيل المثل، كشفت العملية الإرهابية التي عرفتها قرية سبيبة من ولاية القصرين وذهب ضحيتها خالد الغزلاني، شقيق العسكري سعيد الذي تمت تصفيته قبل أشهر، أن الأمر كان تصفية حساب بين أبناء عمومة اختلفت مواقفهم، جزء منهم اختار الوقوف مع المجموعات الإرهابية، والجزء الآخر انحاز للدولة وللشرعية.
مكّنت هذه الحاضنة الضيقة الجماعات المسلحة من التزود بالحد الأدنى من الحاجيات الأساسية مثل الطعام وبطاقات الهواتف والأغطية، وكذلك الحصول على معلومات تتعلق بتحركات الجنود والأمنيين وبمناطق وجودهم. كما بيّنت المعطيات الأمنية أيضاً أن بعض الخلايا المسلحة تقيم في الأحياء وليس فقط في المناطق الجبلية وبالكهوف. فعندما تمت محاصرة بيت وزير الداخلية السابق لطفي بن جدو في مدينة القصرين، كشفت التحريات أن الذين قاموا بتلك العملية لم ينزلوا من الجبل، وإنما كانوا يختبئون في أحد أحياء المدينة، ولا شك في أن بعضهم كان يحظى بتواطؤ بعض أبناء حيّهم. فقيمة التضامن بين أبناء العشيرة الواحدة يمكن أن توظّف في سياق مخالف للمصلحة الوطنية، إذ لا تزال تتمتع القبيلة في بعض الأوساط بتأثير واسع قد يتجاوز مسألة الولاء للوطن. ولعل استمرار التوتر بين الشرطة خصوصاً وسكان المناطق الداخلية التي لا تزال مهمشة، يزيد من تعميق المسافة بين الطرفين، ويشجع على "حماية" بعض الإرهابيين وعدم الوشاية بهم.
أما العامل الثالث المهم لفهم استمرار هذه الجماعات في نشاطها التخريبي، فيتعلق بالمساعدات التي تمتعت بها طيلة السنوات الأخيرة من تنظيمات إرهابية في الجزائر وأخرى من مالي ومن دول جنوب الصحراء الأفريقية. فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها الجيش الجزائري لضبط الحدود بين البلدين والتضييق على تحركات العناصر الإرهابية، إلا أن جزءاً منهم تمكّن من الالتحام بالعناصر التونسية، واندمج معهم ضمن تنظيمات موحّدة. وقد قُتل الكثير من الكوادر القيادية التي تحمل الجنسية الجزائرية، في مواجهات أدارها بنجاح الجيش التونسي وقوات الأمن.
هذه بعض الأسباب الجغرافية والاجتماعية الكامنة وراء استمرار الإرهاب في تونس. وإذا أضيفت إليها الجبهة الليبية التي توفر ملاذاً آمناً للمئات من المقاتلين التونسيين، فيمكن حينئذ القول إن المعركة ضد هذه الجماعات مرشحة لكي تستمر فترة طويلة، تبقى خلالها الدولة الطرف الأقوى، في مقابل تمكّن هذه الخلايا من حين لآخر من تنفيذ عمليات اغتيال تطاول أمنيين وعسكريين، لأن تجارب العالم تؤكد أن الحرب على الإرهاب لها كلفة في الأرواح والأموال.
ويشرح العميد مختار بن نصر لـ"العربي الجديد"، وهو عسكري متقاعد ويترأس حالياً "اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب"، أن خمسين كيلومتراً من مساحة جبل الشعانبي تقع داخل التراب الجزائري. وخلال الكفاح الوطني، تمكّن نحو عشرين ألف مقاتل من الاختباء داخل هذا الجبل، ولم يستطع الجيش الفرنسي الوصول إليهم. لهذا، وعلى الرغم من قلة عدد الإرهابيين الذين قد لا يتجاوزون حالياً المائتي عنصر، فإن الجيش التونسي بمعداته الجديدة التي حصل عليها منذ سنة ونصف، لا يزال يجد صعوبات كبيرة في القضاء عليهم.
أما العامل الثاني الذي يشير إليه بن نصر، فيتعلق بالحاضنة الاجتماعية الضيقة التي تستفيد منها هذه الخلايا، إذ من المؤكد أن التيار "السلفي الجهادي" لم يتمكن طيلة المرحلة الماضية من كسب تعاطف التونسيين الذين تضرروا كثيراً من العمليات التي قام بها هؤلاء والتي أحدثت ضرراً بالغاً بقطاع السياحة وبالاقتصاد المحلي. وهناك رفض قاطع من قبل عموم الشعب لدعوة هؤلاء الخروج على الدولة وتكفيرها، وتجلّى ذلك بوضوح في مختلف المناسبات وفي أعقاب كل عملية إرهابية. لكن الأبحاث الأمنية والعسكرية أثبتت أن هذه الجماعات استفادت من بعض الروابط العائلية الضيقة داخل الأحياء والمناطق الجبلية، حيث يعتبر من "العار" تسليم الأخ أو ابن العم إلى الدولة، أو رفض مساعدته في حالات الضيق. فعلى سبيل المثل، كشفت العملية الإرهابية التي عرفتها قرية سبيبة من ولاية القصرين وذهب ضحيتها خالد الغزلاني، شقيق العسكري سعيد الذي تمت تصفيته قبل أشهر، أن الأمر كان تصفية حساب بين أبناء عمومة اختلفت مواقفهم، جزء منهم اختار الوقوف مع المجموعات الإرهابية، والجزء الآخر انحاز للدولة وللشرعية.
مكّنت هذه الحاضنة الضيقة الجماعات المسلحة من التزود بالحد الأدنى من الحاجيات الأساسية مثل الطعام وبطاقات الهواتف والأغطية، وكذلك الحصول على معلومات تتعلق بتحركات الجنود والأمنيين وبمناطق وجودهم. كما بيّنت المعطيات الأمنية أيضاً أن بعض الخلايا المسلحة تقيم في الأحياء وليس فقط في المناطق الجبلية وبالكهوف. فعندما تمت محاصرة بيت وزير الداخلية السابق لطفي بن جدو في مدينة القصرين، كشفت التحريات أن الذين قاموا بتلك العملية لم ينزلوا من الجبل، وإنما كانوا يختبئون في أحد أحياء المدينة، ولا شك في أن بعضهم كان يحظى بتواطؤ بعض أبناء حيّهم. فقيمة التضامن بين أبناء العشيرة الواحدة يمكن أن توظّف في سياق مخالف للمصلحة الوطنية، إذ لا تزال تتمتع القبيلة في بعض الأوساط بتأثير واسع قد يتجاوز مسألة الولاء للوطن. ولعل استمرار التوتر بين الشرطة خصوصاً وسكان المناطق الداخلية التي لا تزال مهمشة، يزيد من تعميق المسافة بين الطرفين، ويشجع على "حماية" بعض الإرهابيين وعدم الوشاية بهم.
هذه بعض الأسباب الجغرافية والاجتماعية الكامنة وراء استمرار الإرهاب في تونس. وإذا أضيفت إليها الجبهة الليبية التي توفر ملاذاً آمناً للمئات من المقاتلين التونسيين، فيمكن حينئذ القول إن المعركة ضد هذه الجماعات مرشحة لكي تستمر فترة طويلة، تبقى خلالها الدولة الطرف الأقوى، في مقابل تمكّن هذه الخلايا من حين لآخر من تنفيذ عمليات اغتيال تطاول أمنيين وعسكريين، لأن تجارب العالم تؤكد أن الحرب على الإرهاب لها كلفة في الأرواح والأموال.