لماذا لا نحكي عن الجسد؟

04 ديسمبر 2014
عشقت القراءة منذ طفولتي (Getty)
+ الخط -
لم يملك والداي غرفة نوم خاصة بهما، ذلك لضيق مساحة البيت. كما أنّهما فضّلا إعطاءنا أنا وأخوتي الثلاثة غرفة النوم الوحيدة في المنزل. أمّا هما، كانا ينامان على الكنبة في غرفة الجلوس بعد أن نخلد جميعاً إلى النوم عند الساعة الثامنة والنصف مساءً تماماً. وكان أبي وعلى الرغم من انفتاحه على العالم بكل تفاصيله، ومن خلال عشقه لأشعار الحب، خصوصاً أشعار نزار قباني عن المرأة والغزل، وإيمانه الكبير بوجوب المساواة بين الفتاة والشاب بكل شيء، إلا أنّه كان في الوقت عينه الأب الشرقي المتزمت. 

وكان يتحكم في تصرفاتي، خصوصاً في مرحلة المراهقة. كان يمنعني من الخروج وحدي أو الذهاب إلى الحفلات المختلطة بين الشباب والفتيات. كما لم تكن تعجبه ثيابي، خصوصاً الفساتين القصيرة التي كانت من أهم الموضات الرائجة في عصر السبعينات من القرن الماضي. أمّا أمي، فكانت بدورها محافظة لأنّها تربّت في دير مسيحي، حيث التربية الصارمة وتحريم النظر إلى الجسد باعتباره خطيئة.

لكن التكلّم عمّا سيحدث من تغيّرات في جسم الإنسان لم يمنعه أحد. فلماذا لم تكلّمني به. لم تحدّثني أبداً عن حقائق الحياة. كبرت ولم يرشدني أحد إلى كل ما يمكن أن يحصل من تغيرات في جسمي، على صعيد النمو، أو الدورة الشهرية، أو حتى عن كيفية مجيء الأطفال إلى العالم. والمؤسف أيضاً، أنّي تعلّمت عدم طرح الأسئلة بكل ما يخصّ هذه الأمور.
لكن فيما يتعلّق بالكتب، يختلف الموضوع كلّياً. إذ لم يكن هناك أي رقابة على الكتب التي قرأتها. عشقت القراءة منذ طفولتي وتعلّمتها من دون مساعدة أحد. وفي يوم من الأيام، اكتشف أهلي فجأة أنّي أعرف القراءة وأنا لم أتجاوز الخامسة من عمري. لم تكن كتب الأطفال متوفّرة في البلاد في تلك الفترة. أمّا الكتب التي كانت منتشرة في العالم العربي، لم تكن تصل إلى فلسطين في بداية الستينات.

وبما أنّ القراءة كانت بالنسبة لي حاجة أساسيّة ووجودية، وبما أنّه كانت لأبي مكتبة منزليّة غنيّة بكتب الأدب العربي والعالمي، فما كان منّي إلاّ أن بدأت بالتهام كلمات الكتب متعمّقة بقراءتها. وكانت البداية مع جرجي زيدان ولاحقاً قرأت الكتب المترجمة، ومنها "البؤساء"، و"بائعة الخبز"، وبعدها طالعت روايات نجيب محفوظ، وطبعاً لجأت إلى قراءة "كتاب ألف ليلة وليلة" للكبار. كنت أقرأ بشهيّة من دون شبع، والأهم من دون رقابة من أحد.
لم أكن أفهم مضامين معظم الروايات في أغلب الأحيان نسبة لصغر سنّي. لكن كانت القراءة تمنحني متعة لا توازيها أي متعة خاصة. كانت تبعدني عن ضجيج أخوتي وأولاد الجيران وألعابهم غير المحبّبة، خصوصاً التنافسية منها. كنت أختار ركناً مخفيّاً لا يراني فيه أحد، لأنّي كنت أقرأ وأنا أمصّ إبهامي. (عادة طفوليّة لم أستطع الاستغناء عنها في تلك المرحلة). أقرأ ولا يهمني كثيراً أن أفهم. فكيف لطلفة في العاشرة من عمرها في بيت محافظ ومجتمع متشدّد، أن تفهم مضمون أحداث رواية "لوليتا"، أو لاحقاً في الرابعة عشرة من عمري، تفاصيل الحياة الزوجية لسيمون ديفوار وزوجها سارتر في رواية "الجنس الآخر". وإلى جانب العديد من كتب الكبار أمثال ثلاثية نجيب محفوظ "بين القصرين" و"السكرية" " و"قصر الشوق"، وبالطبع قرأت موسوعة "حياتنا الجنسية" التي وصلتنا أجزاؤها الثلاثة من خلال اشتراك شهري قام به أهلي في مكتبة "فؤاد دانيال"، ولم تكن هذه الروايات ممنوعة في تلك الأيام. قرأتها وكأنني أقرأ كتاباً فيه وصفات طبيخ أو وصفات طبية.

لكن أكثر الأمور طرافة، هو ما حصل معي عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري. إذ تبادلت القبل لأول مرة مع شريك حياتي الذي كنت قد تعرفت إليه في الجامعة. لقد كنت محرجة ومتلبّكة ولم أعرف كيف أتصرّف. لكنّي سرعان ما تجاوزت الأمر بكثير من الدهشة، والفرح والمتعة. لكن ما حصل بعدها هو الأكثر طرافة. إذ صودف بعد القبلة أن تأخّرت دورتي الشهرية عن عادتها بمدّة أسبوعيْن. فدخلت بحالة الهستيريا لأنّي كنت متأكّدة أنّي حامل. نعم، نعم. فعلى الرغم من كل الروايات والموسوعات كنت جاهلة لهذه الأمور. وفي ذلك الوقت، لم يكن هناك هواتف أرضيّة أو جوّالة، فانتظرت برعب موعد لقائي بحبيبي كي أبكي وأنوح وأخبره بمخاوفي. وعندما أخبرته، ما كان منه إلا أن ضحك عالياً مني ومن سذاجتي المناقضة كثيراً لمظهري وذكائي. حاول أن يفسّر لي أنّ ما حصل بيننا يستحيل أن يؤدي إلى الحمل، فلم أقتنع. فما كان منه، إلى أن أخذني لشراء كتاب للأطفال يناسب عمر التاسعة. وهو كتاب بالعبرية، ومترجم إلى الإنجليزية اسمه "تعال نحكي عن الجنس". وكان مقتنعاً أنّ ما ورد في الكتاب وحده قادر على إقناعي بالحقيقة.

وجلس بكل صبر وهدوء يقرأ ويشرح لي عن عملية تكاثر النحل والضفادع، ليصل إلى آخر الكتاب وقارن بينها وبين عملية الجنس والإنجاب عند البشر. قبل تسعة أعوام تقريباً انتقلنا إلى شقتنا الجديدة، وكانت فرصة للتخلّص من كتب تعليمي الجامعي التي كانت أغلبها بالعبرية. واستغربت وجود كتاب الأطفال "تعال نحكي عن الجنس" بين الكتب. على الرغم من أنّي كنت متأكّدة من فقدانه جرّاء تنقلاتنا الكثيرة من منزل مستأجر إلى آخر. تردّدت قليلاً قبل أن أقرّر الاحتفاظ به، لأنّه أوّل كتاب تلقيت من خلاله أوّل دروس الحياة الجنسيّة عند الطيور، والنحل والأزهار والقليل عن البشر.
ملاحظة مهمة: سألت شابة تسافر في أنحاء الأرض مع فرقة دبكة، وكنت أعرفها منذ صغرها: "هل حدّثتك أمك عن الدورة الشهرية، وعن التغيرات في جسمك، وعن مشاعرك"؟ استغربت عندما أجابتني بالنفي. وأدمعت عيناها عندما أخبرتني عن اليوم الذي أتت فيه دورتها الشهريّة لأوّل مرّة، واستيقظت مرتعبة. الجدير بالذكر، أنّ والدة هذه الفتاة امرأة تبلغ 36 من عمرها وهي متحرّرة. فأصبحت متأكّدة أنّ ما من شيء سيغيّر هذه التقاليد، على الرغم من التطوّر والتقدّم الذي وصلنا إليه.
دلالات
المساهمون