لماذا لا نتوحد إلا في الانهيار؟
ما نشاهده ونختبره، اليوم، يمثل مفارقة صارخة. فها نحن موحدون وشبه متساوين مع بعض الاستثناءات، في الانهيار. وكأن التوق للوحدة قد تحقق، ولكن بالمعكوس، وعلى نقيض الالتزام والطموح بالوحدة الحقيقية التي تلبي مصالح الشعوب العربية وتطلعاتها، فالمشهد العربي المرسوم الآن أمامنا ينطق بمدى التمزق المفجع الذي أصاب ليس فقط الكيانات السياسية، بل أيضاً التركيبة الاجتماعية في معظم البلدان التي ابتلت بحروبها الأهلية، كما بحروب الآخرين عليها. وكأن الوضع، الآن، أشبه بحرب أهلية عربية شبه شاملة. ذلك أن الفرز السياسي المبني، إلى حدّ كبير، على الفرز الطائفي والعرقي والتعامل على أساس العدد، بدلاً من التنوع الذي يؤكد المواطنة، ويرسخ ثقافة المواطنة، ويجعلها أكثر انفتاحاً وميلاً لتعزيز الحريات والحقوق المدنية التي طالما تعطّشنا لها، لكونها تعزز مناعة الانتماء للوطن والأمة. فهذه القيم رافقت حركة النهضة القومية، وكادت أن تتحول إلى ثوابت، لولا الشطط في مسيرة أنظمة عديدة، تخلت عن مسؤولياتها في حماية المواطن، والتزام واضح لتنمية مستدامة في الأمة. فبدلاً من تمكين المواطن وتعزيز قدراته على المشاركة في مسيرة البناء وصناعة المستقبل، انتهينا بخلق
الولاءات الضيقة الطائفية والمذهبية والإثنية التي استولدت الانغلاق والتزمت الذي أدى إلى إفراز التيارات العبثية المتناحرة، والتي نحرت معها موجات من الضحايا، بل ومما تبقى من تماسك في عدد من المجتمعات العربية.
فعندما يتخلى الحكم عن مسؤولياته في رعاية التماسك الوطني، وتمكين الإنسان. عندئذ، تتساقط شرعية السلطة، وتؤول إلى المعارضة، ثم التمرد، وثم إلى انفلات الغرائز الضيقة، بحيث يصبح رد المناوئين للنظام مرآة للنظام وعدوانيته تجاه شعبه. وبذلك، يُفسح المجال للحركات الإرهابية العبثية وتنظيماته التي تأكل الأخضر واليابس. والأنكى أن هذه الأنظمة التي بعبثيتها واسترخاصها الإنسان المواطن أوجدت هذه الحركات، نراها، اليوم، تخيّر سكانها بين الولاء لها أو التسليم لهذه الحركات. وكأن الخلاص لا وجود له خارج هذه المعادلة. المعارضة المعقولة غير متوفرة، إلا في بعض الحالات والأوضاع، لكنها عاجزة بما فيه الكفاية لاستقطاب الجماهير المتضررة من الطرفين المتناحرين.
على الرغم من كل هذه العتمة الداكنة، ومن سيادة هذه العبثية المخيفة والشرذمة المعطّلة والعنيفة في معظمها، لا بدّ من التحصن ضد الاستسلام لحتمية استمرار هذا الشطط. يكمن المدخل في عدة عناصر، أولها خطاب التحريض ضد المنطق التعبوي الفئوي الذي يعزز الولاءات الضيقة ويحرض على إلغاء الآخر واستئصاله. فهذا المنطق المتخلف والمستفز كان، وما زال، بمثابة رئة التنفس لهذه الحركات، كما لبعض الأنظمة القائمة. ثانياً، المباشرة في بناء الأطر الوطنية في أقطار عربية عديدة، لتأسيس المفاهيم العصرية التي تؤكد حق الإنسان في مواطنة سليمة، خالية من أوبئة الولاءات الضيقة الرافضة مساواة المواطنين تحت سقف واحد، بحماية القانون في وطن واحد وأمة واحدة، تنهض على الركائز الحديثة التي تشكل، وحدها، الضمانة لحرية الإنسان المواطن وحقوقه وكرامته.
ولدت الحالة السائدة الكثير من السأم والتشاؤم، وأحياناً اليأس. مع ذلك، ليس هناك من خيار غير استنهاض الطاقات الثقافية والفكرية والعلمية المستنيرة، وهي متوفرة على الرغم من أنها مكبوتة أو صامتة؛ لتقوم بالدور الإرشادي والتنويري، وسط الظلامية الخانقة، وبالتالي، تمكينها وحماية مناعتها، كي تتولى الدور المؤهلة له، كما أثبتت أهليتها في السابق، والمرشحة حالياً من المساهمة في إخراجنا من هذه المحنة الخطيرة، وذلك في سياق العمل على التصحيح، أو على تكوين البدائل التي تزيل الانحرافات، وتصحح الخطايا والأخطاء، تمهيداً لإعداد الأجيال المقبلة من أجل إنجاز ما فاتنا من تكامل نهضوي عربي، يستعيد المبادرة، مستفيداً من أخطاء التجارب الماضية، فلا خيار أمامنا سوى التشبث بالأمل، وبقدرتنا على إعادة صناعة المستقبل لأجيالنا المقبلة، وليس الاستسلام لوحدة الانهيار السائدة في الوقت الراهن.