23 أكتوبر 2024
لماذا تصدّر "الإسلاميون" انتخابات المغرب؟
يطرح حزب العدالة والتنمية، الإسلامي المغربي، نفسه حالةً جديرة بالدراسة، تحيّر الباحثين بمختلف مشاربهم. فهذا الحزب، منذ فُتح له الباب للمشاركة في الحياة السياسية "الشرعية"، نهاية تسعينات القرن الماضي، وهو يتقدّم بخطىً ثابتة وتصاعدية. ففي العام الأول لمشاركته في الانتخابات عام 1997، حصل على 9 مقاعد في البرلمان، وارتفع العدد إلى 42 مقعدا عام 2002، ثم إلى 46 عام 2007، وقفز هذا العدد إلى 107 مقاعد عام 2011، وفي انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تصدّر الحزب مرة أخرى نتائجها، وحصل على 125 مقعدا.
وكان يمكن لهذا الحزب أن يحصد مقاعد أكبر، لولا بعض "الإجراءات" القبلية التي جاءت أصلاً للحد من "اكتساحه" الانتخابات، من قبيل إعادة تقسيم بعض الدوائر الانتخابية، لتشتيت أصواتها، وخفض العتبة الانتخابية إلى 3%، بعدما كانت محددة في 6% في الانتخابات السابقة، وكان الغرض من هذا الإجراء "بلقنة" الساحة السياسية، بفتح الباب لأحزاب صغيرة، عل وعسى أن تساهم في تشتيت الأصوات. وقُبيل بدء الحملة الانتخابية، أبطلت وزارة الداخلية نحو مائة ألف ناخب مسجل، بدعوى أن تسجيلهم تم عبر الإنترنت، لكن السبب الحقيقي لهذا الإلغاء أن حزب العدالة والتنمية هو من أقنعهم بالتسجيل، في إطار الحملة التي أطلقتها وزارة الداخلية لتشجيع المواطنين على المشاركة بكثافة في الانتخابات، وهذا الدور يسمح به القانون المغربي للأحزاب السياسية "الشرعية"، بل هذا هو أحد أهم الأدوار التي يحدّدها لها الدستور، أي تأطير المواطنين.
يضاف إلى ذلك أن "العدالة والتنمية" حصل على هذا العدد الكبير من المقاعد، على الرغم من الضربات القوية التي كانت تنزل عليه من جهاتٍ نافذة داخل الدولة العميقة، ومن أعلى سلطة في البلاد، وحملات التشويه الإعلامي التي شنتها ضده وسائل إعلام مقرّبة من السلطة، استهدفت رأسماله القيمي المبني على الأخلاق. وقُبيل الانتخابات، سمحت السلطة نفسها لمظاهرةٍ "مجهولةٍ" (لم يتبنّها أي فاعل سياسي في المغرب) للخروج إلى شوارع الدار البيضاء، تندد بما سمتها الشعارات التي رفعها المشاركون فيها بـ "أخونة الدولة وأسلمة المجتمع"، وهذه تهمٌ توجهها السلطة في الخفاء للحزب الإسلامي الذي قاد الحكومة المنتهية ولايتها، وكانت تواجهه بها الأحزاب السياسية المقرّبة من السلطة، وأصواتٌ تدور في فلكها.
وفي المقابل، نجد أن هذا الحزب حاز، مرة أخرى، ثقة أكبر عدد من المصوتين في الانتخابات، على الرغم من أنه قاد الحكومة خلال الخمس سنوات الماضية، وأقدم على اتخاذ قرارات "لا شعبية"، كان من شأنها أن تؤثر على شعبيته، واتسم تدبيره الشأن العام بانعدام الكفاءة وقلة التجربة، كما أن حصيلته الحكومية مثار انتقاد كبير، بسبب ارتفاع نسبة المديونية الخارجية، وتحرير أسعار مواد أساسية وارتفاعها، وانخفاض نسبة النمو، وارتفاع نسبة البطالة.. ومع ذلك، حاز الحزب على أصوات نحو مليون وستمائة ألف صوت، حسب بيانات وزارة الداخلية، أو مليون وثمانمائة ألف صوت حسب بيانات الحزب. وفي الحالتين، حافظ على قاعدته الانتخابية، إن لم يكن قد زاد من رقعتها.
لذلك، ومن كل ما سبق، يمكن تفسير هذا التصويت الكثيف على حزب إسلامي، في وقتٍ
يتحدّث فيه كثيرون عن تراجع مد الإسلام السياسي في المنطقة العربية، بما يلي:
أولا، إن التصويت في هذه الانتخابات كان، بالدرجة الأولى، تصويتاً سياسياً على حزب العدالة والتنمية، وعلى مشروعه المجتمعي الذي يتخذ من الإسلام مرجعيته. ويمكن قراءة هذا الاستنتاج الأول من خلال مفارقة أن "العدالة والتنمية" هو الحزب الوحيد من بين أحزاب أغلبية الحكومة المنتهية ولايتها الذي أحرز تقدماً ملحوظاً في هذه الانتخابات، بل منيت باقي مكونات الأغلبية السابقة بخسارةٍ فادحةٍ، سواء من حيث عدد الأصوات أو المقاعد التي حصل عليها كل حزب على حدة.
ثانياً، يمكن ترجمة تصويت الناخبين بكثافة على "العدالة والتنمية" نوعاً من التعاطف مع الحزب، بسبب ما تعرّض له من حملات تشويه وتضييق من جهاتٍ نافذةٍ داخل الدولة العميقة، طوال ولايته الحكومية السابقة، وزادت حدتها قبيل الحملة الانتخابية التي سبقت يوم الاقتراع، وفي أثنائها.
ثالثا، القدرة التواصلية الكبيرة لزعيم الحزب، عبد الإله بنكيران، الذي صنع لنفسه كاريزما سياسية، في زمنٍ تراجعت فيه الكاريزمات السياسية في المغرب، وفي المنطقة العربية بصفة عامة. ربما قد يصنفها بعضهم في خانة "الكاريزمات" الشعبوية، لكن صاحبها أثبت قدرته على تجاوز اختباراتٍ صعبةٍ، زادت من قوته، ولم تضعف حضوره.
رابعاً، السياسة البراغماتية للحزب التي تقوم على الإصلاح في ظل الاستقرار، والإصلاح التدريجي من الداخل، مع قدرةٍ كبيرة على التكيف مع الواقع وتقديم التنازلات.
خامساً، انتهاج خطاب سياسي بنفحة وطنيةٍ ومرجعية إسلامية، استطاع أن ينفذ إلى شرائح واسعةٍ من مكونات المجتمع المغربي الذي ما زالت تطبعه المحافظة.
سادساً، أثبت الحزب امتلاكه آلة دعاية قوية، تعتمد على وسائل تواصل تقليدية، وتستعمل أحدث تقنيات التواصل الحديث، استطاعت أن تنافس إمكانات السلطة الدعائية الرسمية وغير الرسمية وأجهزتها.
سابعاً، نجح الحزب، وهو حديث العهد بالمشاركة السياسية، إذا ما قورن بأغلب الأحزاب المتبارية معه، في بناء آلةٍ انتخابيةٍ فعالة، أثبتت قدرتها على تخطي كل العراقيل التي كانت توضع أمام الحزب. وفي بعض الأحيان، تجاوزت ماكينة وزارة الداخلية، بكل ما لها من إمكانات الدولة، فقد استطاع الحزب أن يغطي جميع الدوائر الانتخابية، وأن يكون حاضراً بمراقبيه في جميع المكاتب الانتخابية. وهكذا، أعلن أمينه العام عن فوزه حتى قبل أن تعلن عن ذلك وزارة الداخلية، وهو ما أقلق أعلى سلطةٍ في المغرب، وعبرت عن امتعاضها عبر بيان وزارة الداخلية، ليلة إعلان النتائج، والذي اتهم حزب العدالة والتنمية بالشك في "الإرادة الملكية"، الساعية إلى "جعل الممارسة الديمقراطية واقعاً متجذراً وخيارا استراتيجياً، لا رجعة فيه".
ولفهم ما جرى ويجري في كل انتخابات مغربية واستيعابه، ولماذا يتقدّم فيها "الإسلاميون" المشاركون في اللعبة السياسية، بينما بقى "الإسلاميون" الذين يقاطعونها في مكانهم؟ ولماذا يفوز "إسلاميو" المغرب، بينما يتراجع أو يُقمع ويُضطهد "إسلاميو" دول أخرى؟ هذا راجع، بالدرجة الأولى، إلى طبيعة المنافسين داخل اللعبة السياسية نفسها في المغرب، فالتنافس لم يكن حول البرامج، وإنما كان في العمق بين إرادتين. إرادة القصر الساعية إلى الحدّ من مد إسلامي متنام داخل الدولة والمجتمع، وإرادة إسلاميين يبحثون لهم عن موقع داخل الدولة يعكس امتدادهم داخل المجتمع. والنزال الحقيقي في استحقاقات أكتوبر كان بين حزبين كبيرين، حزب "الأعيان" المدعومين من السلطة والمزروعين في كل أحزابها، وحزب "الإسلاميين" المحاربين من السلطة نفسها.
وكما سبق أن كتبت في "العربي الجديد"، بعد انتخابات سبتمبر/ أيلول 2015 المحلية، والتي فاز فيها، هي الأخرى، الإسلاميون، فالانتخابات في المغرب تبقى مجرد "استطلاع رأي" كبير لمعرفة توجهات الشارع المغربي، أما "الإرادة الشعبية" فهي هنا لمجرد الاستئناس بها، لأن "الإرادة الملكية" تبقى هي المحدّدة والحاسمة والمقرّرة، في نهاية المطاف.
وكان يمكن لهذا الحزب أن يحصد مقاعد أكبر، لولا بعض "الإجراءات" القبلية التي جاءت أصلاً للحد من "اكتساحه" الانتخابات، من قبيل إعادة تقسيم بعض الدوائر الانتخابية، لتشتيت أصواتها، وخفض العتبة الانتخابية إلى 3%، بعدما كانت محددة في 6% في الانتخابات السابقة، وكان الغرض من هذا الإجراء "بلقنة" الساحة السياسية، بفتح الباب لأحزاب صغيرة، عل وعسى أن تساهم في تشتيت الأصوات. وقُبيل بدء الحملة الانتخابية، أبطلت وزارة الداخلية نحو مائة ألف ناخب مسجل، بدعوى أن تسجيلهم تم عبر الإنترنت، لكن السبب الحقيقي لهذا الإلغاء أن حزب العدالة والتنمية هو من أقنعهم بالتسجيل، في إطار الحملة التي أطلقتها وزارة الداخلية لتشجيع المواطنين على المشاركة بكثافة في الانتخابات، وهذا الدور يسمح به القانون المغربي للأحزاب السياسية "الشرعية"، بل هذا هو أحد أهم الأدوار التي يحدّدها لها الدستور، أي تأطير المواطنين.
يضاف إلى ذلك أن "العدالة والتنمية" حصل على هذا العدد الكبير من المقاعد، على الرغم من الضربات القوية التي كانت تنزل عليه من جهاتٍ نافذة داخل الدولة العميقة، ومن أعلى سلطة في البلاد، وحملات التشويه الإعلامي التي شنتها ضده وسائل إعلام مقرّبة من السلطة، استهدفت رأسماله القيمي المبني على الأخلاق. وقُبيل الانتخابات، سمحت السلطة نفسها لمظاهرةٍ "مجهولةٍ" (لم يتبنّها أي فاعل سياسي في المغرب) للخروج إلى شوارع الدار البيضاء، تندد بما سمتها الشعارات التي رفعها المشاركون فيها بـ "أخونة الدولة وأسلمة المجتمع"، وهذه تهمٌ توجهها السلطة في الخفاء للحزب الإسلامي الذي قاد الحكومة المنتهية ولايتها، وكانت تواجهه بها الأحزاب السياسية المقرّبة من السلطة، وأصواتٌ تدور في فلكها.
وفي المقابل، نجد أن هذا الحزب حاز، مرة أخرى، ثقة أكبر عدد من المصوتين في الانتخابات، على الرغم من أنه قاد الحكومة خلال الخمس سنوات الماضية، وأقدم على اتخاذ قرارات "لا شعبية"، كان من شأنها أن تؤثر على شعبيته، واتسم تدبيره الشأن العام بانعدام الكفاءة وقلة التجربة، كما أن حصيلته الحكومية مثار انتقاد كبير، بسبب ارتفاع نسبة المديونية الخارجية، وتحرير أسعار مواد أساسية وارتفاعها، وانخفاض نسبة النمو، وارتفاع نسبة البطالة.. ومع ذلك، حاز الحزب على أصوات نحو مليون وستمائة ألف صوت، حسب بيانات وزارة الداخلية، أو مليون وثمانمائة ألف صوت حسب بيانات الحزب. وفي الحالتين، حافظ على قاعدته الانتخابية، إن لم يكن قد زاد من رقعتها.
لذلك، ومن كل ما سبق، يمكن تفسير هذا التصويت الكثيف على حزب إسلامي، في وقتٍ
أولا، إن التصويت في هذه الانتخابات كان، بالدرجة الأولى، تصويتاً سياسياً على حزب العدالة والتنمية، وعلى مشروعه المجتمعي الذي يتخذ من الإسلام مرجعيته. ويمكن قراءة هذا الاستنتاج الأول من خلال مفارقة أن "العدالة والتنمية" هو الحزب الوحيد من بين أحزاب أغلبية الحكومة المنتهية ولايتها الذي أحرز تقدماً ملحوظاً في هذه الانتخابات، بل منيت باقي مكونات الأغلبية السابقة بخسارةٍ فادحةٍ، سواء من حيث عدد الأصوات أو المقاعد التي حصل عليها كل حزب على حدة.
ثانياً، يمكن ترجمة تصويت الناخبين بكثافة على "العدالة والتنمية" نوعاً من التعاطف مع الحزب، بسبب ما تعرّض له من حملات تشويه وتضييق من جهاتٍ نافذةٍ داخل الدولة العميقة، طوال ولايته الحكومية السابقة، وزادت حدتها قبيل الحملة الانتخابية التي سبقت يوم الاقتراع، وفي أثنائها.
ثالثا، القدرة التواصلية الكبيرة لزعيم الحزب، عبد الإله بنكيران، الذي صنع لنفسه كاريزما سياسية، في زمنٍ تراجعت فيه الكاريزمات السياسية في المغرب، وفي المنطقة العربية بصفة عامة. ربما قد يصنفها بعضهم في خانة "الكاريزمات" الشعبوية، لكن صاحبها أثبت قدرته على تجاوز اختباراتٍ صعبةٍ، زادت من قوته، ولم تضعف حضوره.
رابعاً، السياسة البراغماتية للحزب التي تقوم على الإصلاح في ظل الاستقرار، والإصلاح التدريجي من الداخل، مع قدرةٍ كبيرة على التكيف مع الواقع وتقديم التنازلات.
خامساً، انتهاج خطاب سياسي بنفحة وطنيةٍ ومرجعية إسلامية، استطاع أن ينفذ إلى شرائح واسعةٍ من مكونات المجتمع المغربي الذي ما زالت تطبعه المحافظة.
سادساً، أثبت الحزب امتلاكه آلة دعاية قوية، تعتمد على وسائل تواصل تقليدية، وتستعمل أحدث تقنيات التواصل الحديث، استطاعت أن تنافس إمكانات السلطة الدعائية الرسمية وغير الرسمية وأجهزتها.
سابعاً، نجح الحزب، وهو حديث العهد بالمشاركة السياسية، إذا ما قورن بأغلب الأحزاب المتبارية معه، في بناء آلةٍ انتخابيةٍ فعالة، أثبتت قدرتها على تخطي كل العراقيل التي كانت توضع أمام الحزب. وفي بعض الأحيان، تجاوزت ماكينة وزارة الداخلية، بكل ما لها من إمكانات الدولة، فقد استطاع الحزب أن يغطي جميع الدوائر الانتخابية، وأن يكون حاضراً بمراقبيه في جميع المكاتب الانتخابية. وهكذا، أعلن أمينه العام عن فوزه حتى قبل أن تعلن عن ذلك وزارة الداخلية، وهو ما أقلق أعلى سلطةٍ في المغرب، وعبرت عن امتعاضها عبر بيان وزارة الداخلية، ليلة إعلان النتائج، والذي اتهم حزب العدالة والتنمية بالشك في "الإرادة الملكية"، الساعية إلى "جعل الممارسة الديمقراطية واقعاً متجذراً وخيارا استراتيجياً، لا رجعة فيه".
ولفهم ما جرى ويجري في كل انتخابات مغربية واستيعابه، ولماذا يتقدّم فيها "الإسلاميون" المشاركون في اللعبة السياسية، بينما بقى "الإسلاميون" الذين يقاطعونها في مكانهم؟ ولماذا يفوز "إسلاميو" المغرب، بينما يتراجع أو يُقمع ويُضطهد "إسلاميو" دول أخرى؟ هذا راجع، بالدرجة الأولى، إلى طبيعة المنافسين داخل اللعبة السياسية نفسها في المغرب، فالتنافس لم يكن حول البرامج، وإنما كان في العمق بين إرادتين. إرادة القصر الساعية إلى الحدّ من مد إسلامي متنام داخل الدولة والمجتمع، وإرادة إسلاميين يبحثون لهم عن موقع داخل الدولة يعكس امتدادهم داخل المجتمع. والنزال الحقيقي في استحقاقات أكتوبر كان بين حزبين كبيرين، حزب "الأعيان" المدعومين من السلطة والمزروعين في كل أحزابها، وحزب "الإسلاميين" المحاربين من السلطة نفسها.
وكما سبق أن كتبت في "العربي الجديد"، بعد انتخابات سبتمبر/ أيلول 2015 المحلية، والتي فاز فيها، هي الأخرى، الإسلاميون، فالانتخابات في المغرب تبقى مجرد "استطلاع رأي" كبير لمعرفة توجهات الشارع المغربي، أما "الإرادة الشعبية" فهي هنا لمجرد الاستئناس بها، لأن "الإرادة الملكية" تبقى هي المحدّدة والحاسمة والمقرّرة، في نهاية المطاف.