بالنظر إلى واقع عمل المنظمات غير الحكومية وتمويلها في المنطقة العربية، يمكن الاحتكاك بجملة المقولات المتعلقة بـ"المجتمع المدني"، كمقولة أخرى تُوظّف عربياً بانفصام عن سياق تطورها العضوي، اتكاء على أزمة تفاعل المجتمع المدني اصطلاحا وممارسة. فالقول حول المجتمع المدني إنما يرتبط بواقع المواطنة والبنى السياسية الناظمة لحياة المجتمع في تعبيرها عن مطامحه ومصالحه كحيز للصراع الطبقي، فلا يمكننا النظر إلى جملة المنظمات غير الحكومية كفواعل وأعمدة لمجتمع مدني تخوض صراعاً باتجاه السلطة أو معها بقدرساحة تتكثف فيها التناقضات الاستعمارية والطبقية ليُعاد إنتاجها كأدوات هيمنة. ولا يمكن التعويل على شاكلة هذه الفواعل لتكون رافعة حراك أو حركة اجتماعية حقوقية وطنية، لأنها تُشكّل مُتَنفّساً لمرجل تزاحم التناقضات الطبقية في المجتمع الرأسمالي، يُنقذ النظام من حالة الانفجار بتلطيف شكل وجوده في قشوره.
من هنا يمكن الحديث عن مدى تدخل مال التمويل في المشهد الحياتي كله للمجتمعات، وترويج ما يراد به استدامة الهيمنة وإعادة إنتاج القبول بما هو قائم، عبر مشروعات ومِنَح يتم تقديمها لمنتجي الفن والفكر المهادن، الضبابي، وغير المتسق مع سياق تطور تجربة مجتمعاته. ويتم إحكام الربط بين النخبة المُنتَجة عبر هذا المال، وتوظيفها كمتاريس داخلية في مجتمعاتها تسهم كحربة متقدمة في قتل تطور المُعطى الثقافي المحلي ومحاصرة تجربة الإبداع في التفاعل مع تراث المجتمعات والتقدم بها نحو حداثة وليدة تجربتها من جهة، ومناهضة للاستعمار والهيمنة من جهة أخرى.
ويجب التساؤل، ما الذي يريده الشباب العربي من مقولة المجتمع المدني؟ فهناك خياران مطروحان للتعاطي ضمن متغيرات العصر، فإما اللحاق، بما يترتب عليه من استمرارية للّهاث وللتماهي مع روح الجلاد، وإما الاضطلاع بمسؤولية الخيار التاريخي لبناء ما هو مغاير، متمايز بأصالته لا بفعله فقط، ليكون في سيرورته بديلاً محلياً، إقليمياً عما هو "لحاقي" أو لنقل "تبعي". وهذا بحكم ضرورة استقلال المحلي عن حالة التبعية وبناء حالة قطع مضاد مع هذه الحالة وما تفرضه من تواطؤ.
الحاجة ملحّة إلى هذا البديل، لنقل البديل الوطني الثوري الشعبي التقدمي، ما يهم هو فكاكه مع أنصاف الحلول، والموجات الاستعمارية الملطفة برشقات التمويل المؤسساتي لمنظمات المجتمع المدني والعمل الأهلي، منتقلاً لشحذ ممارسة مغايرة لما هو "ديمقراطي" بعيداً عن منابع "الديمقراطية" المموَّلة. ليس المطلوب عملية أو مكيانزمات ديمقراطية تنسخ ما هو قائم لدى أصحاب التمويل، فقد أُريد لتقرير مصير الشعوب الواقعة ضمن معضلة التمويل الأجنبي أن يُصاغ ويُتوافق عليه في ورش العمل ولقاءات "حوكمة" فضاءات العمل الأهلي، بحيث يُؤتى بضرورات السوق ومحظورات البرلمان ليتعسّفا بمسيرة تطور وبلورة تجربة شعوبنا. فالحيّز المُتاح لنا بما يوفره جل التمويل الأجنبي لا يعدو كونه مُحاولة تجميلية وتمرينية على استمراء القناع الأبيض كمُتموّل أو وكيل تمويل، لا يتجاوز كونه عصا في يد المهيمنة، وفقاً لما تمليه ارتباطات العطايا التي يمنحها الممول وبالضرورة وعيه.
ولا مجافاة للواقع في القول إنه من دون الارتكاز على ما في الذات من إمكانات ذاتية مستقلة يكفل توظيفها الكرامة في الممارسة والاتساق الأخلاقي في التنظير، لا مخرج للنهوض باتجاه إعادة بناء حالة وطنية ثورية تقدمية تشتبك وتتفاعل مع جل قضايا شعوب المنطقة والعالم ومضطهَديهما وتحمل ما يحلم به الشباب العربي إلى حلبة التطبيق.
راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk