للقبض على رأس الفساد في العراق
لا يمكن لأحد أن يتصور حجم الفساد الذي يطغى اليوم في العراق، وعلى الرغم من حصول التغيير الذي حصل في الوزارة والبرلمان، ومجيء وجوه جديدة تسلمت السلطة في البلد، إلا أن كل منظومة رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، لم تزل في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وخصوصا في الجيش والقضاء، بل والأعتى من ذلك اليوم أن المالكي نفسه لم يزل يتمتع بمنصب نائب رئيس الجمهورية، ولم يزل يتصرف وكأن العراق قطعة من ممتلكاته. وتبدو الوزارة الجديدة التي شكّلها الدكتور حيدر العبادي، وبعد ثلاثة أشهر من تسلمها الحكم، راغبة في إصلاح ما يطغى من الفساد، وهي منشغلة أيضاً بالحرب ضد داعش، وتحاول صد امتداد داعش نحو قلب العراق، بعد أن احتلت رأسه في الموصل في عهد المالكي.
تواجه الحكومة العراقية، اليوم، جملة من المشكلات التي ستعيق عملها، خصوصاً إذا ما عرفنا نوعية بعض الذين غدوا وزراء ومسؤولين، كونهم نصبّوا ضمن تقليد كريه، يتمثل بالمحاصصة الطائفية والحزبية. وعليه، فإن الرجل المناسب ليس في مكانه المناسب، فكيف لرئيس حكومة يطمح في الإصلاح والتغيير، وبرفقته طاقم يرتبط هذا بحزبه، وذاك بأجندته، قبل أن يستمع إلى رئيس حكومة؟ فالخراب قد تمثل ببنود تضمنها "دستور" أباح حصول الخطأ، ولم يصلّح حتى اليوم، فالمشكلة ليست في الفساد نفسه، بل بمن خلق عوامله من الفاسدين، وجلس يأكل من جناياته على العراق والعراقيين.
إذا أراد العراقيون، اليوم، فتح طريق نحو المستقبل، ليتخلّصوا من الأزمة العميقة التي يعيشونها، فعليهم معالجة الخلل في العملية السياسية وإخفاقاتها، بتصحيح ما تضمنه الدستور العراقي. وقبل أن يبحثوا في مستقبل الوفاق السياسي والمصالحة الوطنية، عليهم ليس الاكتفاء بتغيير الوجوه، بل بتغيير النهج والمضامين، بسنّ مبادئ وطنية جديدة، يمكن لها أن تدين، صراحةً وعلناً، من كان مسؤولاً عن الفساد والخراب في السنوات الماضية. على العراقيين، اليوم، أن يجتثوا رؤوس الفساد، بدءا بالمالكي وكلّ من عمل في منظومته الجائرة، وما الذي فعلوه بالعراق والعراقيين. على رئيس الوزراء أن يطالب القضاء بالتحقيق مع المالكي، وكل أفراد عائلته وأزلامه الذين كانوا وراء كل الخراب والدمار والاختلاسات والسرقات وارتكاب كل الجرائم التي أودت بحياة نصف العراق. والتستر على المخربين والمجرمين والفاسدين وكل الذين تآمروا سراً، وعملوا على ضياع نصف العراق، تعد مشاركة في الجريمة، لا بد أن يحاكموا ويعاقبوا، ليكونوا عبرة تاريخية لكل الفاسدين، وما أكثرهم اليوم في العراق.
اليوم في العراق حالة صحوة وطنية، وأعرف أن من كان يؤيد المالكي سياسياً قد تخلى عن ذلك، لانكشاف حقيقة ما كان، وحتى من يتعاطف معه اليوم طائفياً، فإن المصير الذي يتهدد كل العراقيين لا بد أن يحرّك ضمائر كل من آمن ويؤمن بانقسام العراق، طائفياً وعرقياً ودينياً، إن ما جرى للعراق والعراقيين، على مدى ثماني سنوات من حكم المالكي وحزبه وأشياعه، ينبغي أن لا يمر مرور الكرام، من دون معالجته كأول خطوة في الإصلاح والتغيير. وعلى العراقيين أن يسألوا عن أموالهم التي تبعثرت، وعلى مدنهم التي تمزقت، وعلى حقوقهم التي ذهبت، وعلى كرامتهم التي أهدرت، وعلى أرواحهم التي أزهقت، وعلى بيوتهم التي سحقت.. إلخ، عالجوا الأسس المتعفنة، قبل بدء أي بناء وعوامل الهدم والفساد لم تزل موجودة، تسرح وتمرح في العراق وفي قلب بغداد بالذات.
ملفات الفساد في العراق التي يعرفها العراقيون لا تعد ولا تحصى، ومنها الصفقات والعقود في كل وزارة، وخصوصا الرئيسية، وكلها حالات في الفساد المالي والإداري بملايين ومليارات الدولارات. كلها ذهبت، ولا يعرف إلى جيوب من، ولم تزل الخدمات معطلة، والخزينة خاوية والملفات مبعثرة. ومما سمعته أن رئيس الوزراء السابق، ونظرا لما يتمتع به من نفوذ حتى اليوم، مصرّ على عدم تسليم قصره إلى الدولة كونه من ممتلكاتها، والأخطر أنه، ومنظومته، يحتفظ بكل الملفات والأضابير القديمة، ولم يسلمها إلى خلفه الذي عليه، اليوم، أن يجتث كل الفاسدين من مؤسسات الدولة، ويحاسب الرؤوس الكبيرة السابقة، محاسبة عسيرة على كلّ ما اقترفوه من الآثام والجرائم في كل بقعة من أرض العراق، قبل إفلاتهم من العقاب، والعمل على معرفة من نهب المليارات من أموال البلاد والعباد؟ ومحاسبة كل المرتبطين والمشبوهين من المسؤولين والتجار ورجال الأعمال من الطفيليين الجدد الذين أصبحوا، في غضون عشر سنوات من أصحاب المليارات. عليكم أن لا تقتصر محاسبتكم على صغار الموظفين والضباط، للتغطية على المسؤولين الكبار.
على كل العراقيين أن يكون لهم، اليوم، إجماعهم ضد الفساد والفاسدين، وأن تتاح لهم الفرص للتظاهر والاعتراض على كل الأخطاء والجنايات التي حصلت بحق أبنائهم ونسائهم وبيوتهم، وبحق كل وطنهم الذي ساهم حكامه في ذبحه، وتسليم نصفه إلى الغرباء المتوحشين. وعلى من يعارضني القول أن يعترف بالفساد الذي بدأ منذ بدء عملية سياسية فاشلة، فهي البداية العقيمة التي جاءت بكل هذه الأثقال من المشكلات على أيدي أناس لا يفقهون شيئاً في إدارة البلاد، ولا يدركون شيئاً في قوانين الدولة، ولا يعرفون شيئاً من دواخل المجتمع، فكان أن سمحوا لكل الأوبئة أن تمتد وتنتشر، لكي يزيدوا من خراب العراق وتدميره، ناهيكم عن أنهم ألعوبة بأيدي الأقوياء في المنطقة، فقاد ذلك إلى ضرر تاريخي لحق بالعراق والعراقيين، فضلاً عن إخفاقات مزمنة ومتوالدة ولدها انقسام طائفي، بدأ سياسياً وامتد اجتماعيا، فكانت تداعياته مريرة تاريخياً. أحدث ذلك "الانقسام" المفضوح شرخاً عميقاً في مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية، وقسمت المنافع والغنائم والمناصب بين أقطابها، وفق نظام المحاصصة المقيت.
أخيراً، أتمنى أن يلتفت كل من يريد الإصلاح والتغيير إلى معالجة آثار وبقايا الحكومتين السابقتين الراحلتين بسرعة، قبل أن يعيد الفاسدون أوراقهم من جديد، والإبقاء على خراب العراق وانقسام العراقيين. وسيعمل عجز السلطات التشريعية والتنفيذية، اليوم، في ملاحقة الفاسدين، بإخفائهم أو التغاضي عنهم، أو مسامحاتهم لهم، سيعمل على قلب الطاولة على رؤوس كل المصلحين وطالبي التغيير الحقيقي. وإن أي تلكؤ، في هذه المهمة الوطنية المقدسة، سيمنح الفاسدين الذين يتحركون، اليوم، من أجل الإبقاء على مصالحهم وفسادهم، بل وحتى مساعدتهم منظمات إرهابية في سحق العراق، كما توضحت الصورة، اليوم، وقد وجد الجواب على التساؤل القائل: من تآمر خفية على سقوط الموصل؟