للحب في عيده... حكاية عشق سورية

14 فبراير 2017
+ الخط -


كان يضج عفوية وإحساساً، وينتحب ألماً وعوزاً، ذلك الريف.

هناك أحبها وأحبته.

سالم وعلياء ومقتبل عمر غمرته فطرة قديمة مقيمة، فيما الحداثة ما تزال طفلة صغيرة بعيدة تحبو صوب أطراف القرية الغارقة في التاريخ.

شهدت قصة حبهم مساحات حقول ممتدة طالما أخفت مشاعر المتحابين وراء قامات الذرة المتطاولة في مداها، وباركت خطبتهم آلهة الجهل والمرض والفقر التي كانت تسبغ سوءها في تلك الأيام على جل سكان قريتنا، في بيت أهله الطيني العتيق تزوجا بعد أن تعاهدا على تحمل جوع واحد وقدر واحد لرب واحد.

كان فلاحاً يعمل بالأجرة وفلاحةٌ مثله كانت، يوم لهما وتسعة لصاحب الأرض، والده مريض، وإخوته سبعة صغار جياع، وهي أمست زوجة الأخ الأكبر وشريكته في إعالة إخوته، ومساعِدَة أمه في شؤون البيت المتهالك، ومعول عليها نيافة أن تبدي قدراتها في الإنجاب كي تستطيع حماتها أن تباهي بفحولة ابنها الأقارب والجيران.

قد تكون الأقدار، وقد تكون غرفة الزوجية التي تشاركتها مع ثلاثة من إخوة زوجها الصغار، أو العمل الممتد من الفجر إلى الليل، أسبابا وراء عدم حبلها في الأشهر الأولى، لكن المصائب عادة لا تأتي فرادى فذاك الشرطي الذي وقف ظهيرة يوم نحسٍ بباب المنزل كان من شعبة التجنيد، وكانت الورقة التي حملها بيده تبليغا لسالم للالتحاق بالخدمة العسكرية، فيا لتعس الشقي.

في تلك الفترة كانت البلاد خارجة لتوها من حرب خاسرة ضاع فيها جزء لا يستهان به من الأرض والأرواح، وكانت القيادة الجديدة للبلاد والتي قفزت إلى عرش السلطة بعد تلك الحرب بفترة وجيزة عازمة على رد الهزيمة يوما ما لإثبات شرعية وجودها، والخدمة العسكرية لمعيل مثله نكسة لجميع أفراد العائلة لأن الراتب الشهري الذي سيتقاضاه أثناء الخدمة لن يكفي سوى لدفع أجرة الحافلة التي كانت تقله كل عدة أسابيع من وإلى قطعته العسكرية في الجنوب، عندما يحصل على إجازة مبيت لا تتجاوز ثمان وأربعين ساعة.

في غيابه لم يكن أمامها إلا أن تحاول زيادة جهدها للحصول على بعض الليرات الإضافية من حياكة الصوف وبيعه، فأضحت صنارات الصوف وبعض كباكيب الخيطان ملازمة لجعبتها، تمسك بها كلما سنحت فرصةُ استراحةٍ قصيرة أثناء العمل في الأرض أو البيت، كذا حتى ينام كل أهل البيت فتبقى وحيدة إلى ما بعد منتصف الليل تتابع شغل الصوف على ضوء شمعة.

لكن الهم والألم مهما استطالا فلا بد من نهاية لهما، وها هي الشهور تمضي سريعة والخدمة العسكرية شارفت على النهاية، إذ علمت من بعض رفاقه أنه سيحضر إلى القرية بعد أيام في إجازة أخيرة قبل التسريح، سيمكث فيها قرابة أسبوع ثم يعود إلى قطعته لاستلام بطاقته المدنية وتسليم بطاقته العسكرية.

كانت تدعو الله ليل نهار كي لا تنشب حرب أثناء خدمته، وها هو سالم عائدٌ إليها سالماً بعد أن بدا للجميع أنه لن تكون هناك أي حرب في تلك المرحلة.

في ذلك الأسبوع، عاش الجندي العائد مدللاً، يأكل وينام ويستحم كما ومتى يشاء، ويقضي يومه متكئاً يتحدث إلى الأصدقاء والضيوف في انتظار عودة علياء مع غروب الشمس لتسامره إلى ما بعد أن ينام أهل البيت.

فجر يوم التسريح، وقفا عند عتبة الدار، نظرا في عيون بعضهما البعض مطولاً وغمرتهما أشعة الشمس القادمة من الأفق الشرقي بتفاؤل عظيم، وكم يتفاءل المستضعفون بتناقص الهمّ لا بازدياد السعادة.

غادرا نحو ساحة القرية، هو ركب الحافلة وهي ركبت نعليها إلى الأرض، قدرِها.

عادت آخر حافلة مساء ذلك اليوم وما عاد، وانتظرت يومين وما عاد، ثم نشبت الحرب.

قال الناس إن قيادة الجيش أجلت قرارات تسريح الجنود في اليوم نفسه الذي رحل فيه سالم ولم يعد، ووضعت الحرب الخاطفة القصيرة أوزارها ولم يعد، وانتهت مواسم العزاء بكل من استشهد في المعارك وحبيب العمر لم يعد.

لم يبق رجل في القرية إلا وساهم بكل ما استطاع من معرفة في السؤال عن مصيره، لم يبق مستشفى عسكري إلا وسافرت إليه علياء علها تجده بين مصابي الحرب، لم تبق قائمة أسرى إلا وقرأتها مئات المرات علها تجد اسمه فيها، لكن كل المحاولات باءت بالفشل وعادت إلى القرية بعد آخر زيارة للعاصمة بوثيقة كَتَبت فيها قيادة الجيش بشكل رسمي أن حبيب عمرها.... مفقود.

ليست الدموع وحدها، بل كل الدنيا جمدت في عينيها، حتى الهواء جمد في صدرها أياما طويلة، شيء وحيد فقط راح يتحرك معلنا خلود روح أبيه فيها وفلسفةَ بقاء جديدة ستسبغ ألمها على ما تبقى من حياتها.

أخيرا رزقت بطفل لم ير وجه أبيه، وفي بيت ضاقت مع مرور الوقت أركانه بشباب يكبرون، هم قادرون بعد اليوم على إعالة أنفسهم، وما عاد لوجودها وطفلها من داع بينهم.

عادت عند الغياب يوما لتجد ثيابها وثياب طفلها في بقجة عند عتبة البيت، لم تناقش أهل مفقودها في ما فعلوا فقد كانت - ومذ عرفتهم - تتوقع غدرهم بها يوما، أخذت صغيرها من بيتهم وسألتهم بعض أشياء زوجها الصغيرة فلم يمنعوها، وعادت تجر أذيال المساء الحزين إلى بيت أهلها. 

***

زوجة المفقود أضحت جارة لأهلي ثانية في القرية، وفي غرفة صغيرة بناها لها أخوها بملاصقة البيت عاشت، وكبر ابن المفقود بين أخواله ومعنا نحن أطفال تلك الحارة. لعبنا معا وذهبنا إلى المدرسة معا وكنا نشعر دائما أنه ابن البطل، كانت تقص علينا قصصا عن زواجها ومعاناتها كلما اجتمعنا للّعب عند ابنها وكنا جميعا نستمع لتفاصيل قصتها التي رددتها على مسامعنا عشرات المرات بفائق الشغف، كانت لنا جميعا أختا وأمّا.  

فكّرت مراراً في إرسال صغيرها إلى مدرسة أبناء الشهداء كي تتولى المدرسة رعايته، لكن كيف والمدرسة بعيدة هناك في العاصمة وعشرات الأميال ستفصلها عمن أضحى كل شيء في حياتها؟ لذا قررت العيش براتب الشهادة الذي منحته إياها وابنَها قيادةُ الجيش حتى ولو كان بالكاد يسد الرمق واحتياجات المدرسة المحلية البسيطة.

ورغم فاقتها، لكننا لم نشعر يوما، نحن أولادَ الجيران، إلا بوافر كرمها عندما تدعونا إلى غرفتها المتواضعة، لأنها كانت مستعدة لتقاسمنا مع ابنها حتى رغيف خبز وحيد متبق لديها، أكثر من رجل تقدموا لخطبتها وتبرعوا بتخليصها من عذاب فقرها وسوء حالها، وشجّعها أهلها على القبول مراراً.

لكن كيف تتزوج وهي متزوجة، وزوجها سيعود يوما؟

أذكر تماما سردها، كيف كانت تتخيل أنه تاه في أرض العدو وقد يكون فقد الذاكرة، وأن ذاكرته ستعود إليه يوماً فيعود، أذكر كيف كانت تستشيط غضباً عندما كان خيال روايتها يحدثها باحتمال زواجه من إحدى نساء العدو وعيشه بعيدا عنها، وأذكر كما كل الجيران كيف كانت لا تنام الليل وتبقى ساهرة أمام باب البيت كلما أعلن في الصحف أو التلفاز نبأ إفراج عن أسرى جدد حتى ولو لدولة أخرى مجاورة، عله يكون بينهم، أو كلما لاحت في أفق حوارات السياسيين بوادر اتفاقية سلام مع العدو، كانت دائما تتخيله يكبر معها ويشيخ معها، علياء كانت دوما على يقين بأن سالماً ما يزال على سطح هذا الكوكب.

***

 

دخلت بيت صديق لي في العاصمة منذ سنة تقريبا، وعرّفني إلى والده العجوز المقعد، وحكى لي أنه كان من أبطال الحرب السابقة وأنه فقد ذاكرته مدة طويلة بعد إصابة رأسه بشظية وأنه عاد واستعاد بعضا منها منذ سنوات قليلة، لا أعرف ما الذي جعلني أطلب من صديقي سؤاله عن مكان خدمته أثناء تلك الحرب، ولا أعرف لِمَ لم أفاجأ بحكاية وجوده في الموقع نفسه الذي فقد فيه سالم يوما، حسب رواية قيادة الجيش لعلياء، كنت أشعر أن قدراً ما جرّني إلى بيت ذلك الصديق كي أختم القصة.

حكى لي الضابط العجوز أن سالماً كان أحد أفراد مجموعته عند خط النار، وأنهم حوصروا من قبل قوات العدو ونفدت ذخيرتهم وكان عليه أن يعطي الأمر لمجموعته بالانسحاب، وأن سالماً تبرع في تلك الموقعة بتغطية انسحاب رفاقه التسعة لأنه الوحيد الذي بقيت في يده قذيفة مضادة للدروع، ذكر العجوز أن جميع من معه قتلوا بعد أمتار قليلة من خندقهم بعد الانسحاب بنيران الطائرات المغيرة وأنه كان الناجي الوحيد، وذكر أن صورة سالم وهو يقفز من الخندق ليعطب الدبابة المهاجمة لا تزال تأتيه في أحلامه، سكت لحظة ثم أردف: سالم سحق تحت جنازير دبابة مهاجمة تالية.

المفقود إذاً لم يعد مفقوداً ولا هو يرتع في أرض العدو، هذا ما كنت ذاهباً لأخبر به المرأة العجوز كي أريحها من حمل عمرها.

***

 

جلستُ مع ابنها الذي يصغرني بعام في بيت جديد صغير في طرف القرية تابع لمساكن الجيش، منحتها الدولة إياه قبل عامين، ودخلت زوجة ابنها تحمل الحفيد الرضيع، سلمت عليّ ثم ذهبت إلى الغرفة الأخرى، ثم دخلت زوجة الشهيد، علياء، العلياء دوماً على الأسى، سلمت علي بحرارة قديمة معهودة، سألتني عن أحوالي وأعمالي في العاصمة بعدما غادرت القرية ولم أرها أو ترني لسنوات عدة، ثم ذهبَت إلى المطبخ لتعد لنا الشاي، وراح ابنها يتحدث عن بعض أعماله بينما كنت أتابع بعيني تفقد أغراض الغرفة، تلك هي صورة سالم الصغيرة الوحيدة الباقية، والبالية، لا تزال في إطارها القديم نفسه، تحتل مركز الجدار المقابل لي من دون أي شيء حولها، وفي الفاترينا الزجاجية القديمة نفسها وفوق الرف الأوسط لا يزال كل شيء كما عهدناه سابقاً، ملابس سالم القديمة مرتبة فوق بعضها البعض بعناية، كوبه ومشطه وأدوات الحلاقة.

عاجلتني وهي تصب الشاي بسؤال عما يتردد في الأخبار عن اتفاقية سلام مزمع توقيعها مع العدو، تحدثنا في الموضوع بجمل يائسة مختصرة أتبعتها بتنهيدة وقالت:

لو عاد سالمٌ اليوم فسيكون عجوزاً لا نفع منه كزوج.

صمتت للحظة ثم ضحكت وضحكنا جميعا.

انتهى لقاؤنا الأخير وبقي لساني عاجزاً عن البوح بما أعرف، وكيف البوح والمفقود مفقود لديها على ورقة وما فُقد من عينيها ولا من أشيائه الصغيرة التي ما تزال بعد كل هذا العمر تخبئها بعناية؟ كان سالم دوماً أمامها، فجراً واقفاً عند عتبة باب البيت.

***

أتجرأ اليوم وأكتب قصة علياء، لأنها ماتت، ماتت وفي عينها وقلبها حسرة الفاقد، ماتت دون أن تدري أن الله سيعوض صبرها وحزنها خيراً وسعادة، فهي تحسبه ما يزال هنا لكنها ستكتشف اليوم أنه هناك، إلى جانبها.

أتمنى ذلك.

   

دلالات
CD11BFE7-1DC2-4723-B425-CC22AC92AE85
سمير قنوع

طبيب أطفال سوري لديه اهتمامات فنية وثقافية متنوعة، بالرسم والموسيقا والمسرح، ومحاولات أدبية في مجال الشعر والقصة والرواية وكتابة السيناريو. صدر له ديوانا شعر، "شطآن الفراشات، مراكب العودة" ورواية "أنشودة البرد والحرية" وشارك بمجموعة من المقالات الطبية والأدبية والسياسية في صحف ومواقع الكترونية عربية متعددة، منها موقع صحتك في العربي الجديد، وصحيفة الوطن القطرية. يقول :"الحرية هي الانتماء الوحيد الذي يستحق الدفاع عنه حتى رمق القلم الأخير".

مدونات أخرى