19 أكتوبر 2019
لعنة الاغتراب والثقب السوري
لم تزل أرواح موتى السوريين تحوم حائرةً متعبةً وعاجزةً عن عبور برزخ الحياة، باتجاه سكينة الموت والقبور، ولم تزل كذلك أرواح من لاحقتهم لعنة الاغتراب، في هذا الثقب الأسود من الزمن السوري، حائرة ومعلقة بشرنقة الفراغ المحكمة على تفاصيل حياتهم، أينما حلوا، والتي دخلوا إليها مجبرين/ مخيرين، بعدما ضاقت بهم البلاد، لاتساع سجونها ومحاصرة سمائها وما تبقى من بيوت.
يقول يوسف زيدان "الملايين ممن ينوون الهجرة يكونون قد هاجروا نفسياً لحظة تقديم الطلب"، أو ربما لحظة البدء بالتخطيط لطريقة آمنة للخروج، و"النتيجة الفعلية أننا نعيش في بلد فيه الملايين من المهاجرين بالنيّة، أو الذين رحلوا من هنا بأرواحهم، ولا تزال أبدانهم تتحرّك وسط الجموع كأنها أبدان الموتى".
لكن الاغتراب الحقيقي يبدأ منذ اللحظة الأولى لارتكاب الرحيل بالقفز بين عالمين، حيث ما زال السوريون، منذ تلك اللحظة، "معلقين في الفراغ"، غير قادرين على استرجاع أقدامهم إلى الضفة الأولى، وغير قادرين على تثبيتها في العالم الجديد.
ومثل خيط واهٍ يربطنا بذلك العالم المدمر الذي تركناه، ويشدّنا، على الرغم من محاولاتنا البائسة في التقدم باتجاه عوالمنا الجديدة، تأتي أخبار الموت الطازجة عن أحد أقربائنا أو أصدقائنا، ليتجسّد الموت بصورة حقيقية أكثر مما عدنا نحتمل، لأن الضحية، هنا، محسوسة ومدركة تماماً أكثر من آلاف الأسماء التي نسمع عنها يومياً، ويحمينا جزئياً عدم معرفتنا بأصحابها، وليعيدنا هذا الموت الصادم إلى حالة النكوص الحاد التي نحمي بها أنفسنا ظاهرياً من الشعور بالذنب بلبس دور "الضحية"، والتي نبرّر فيها لأنفسنا الاغتراب الذي اخترناه، في محاولةٍ للتصدّي لما نخفيه لا شعورياً من عدم غفران للذات، لأنها اتبعت طريق خلاصٍ فرديٍ، يحمل بين طياته انهزاماً غير مشروع.
تفاجئنا حالة الموت الصادمة هذه بهول أننا كنا قد بدأنا الاعتياد على الموت العام واليومي. لكن مجرد فكرة الاعتياد هذه هي وصف آخر للاغتراب؛ للاغتراب عن أنفسنا، وعن أحاسيسنا ومشاعرنا. هي هوة أخرى تمتد بعمق في الفراغ المربك تحت أقدامنا، والذي سنسقط فيه لحظة إدراك موتٍ آخر، وكأن كل ما يحصل الآن عصي على الأرواح أن تعترف به، وهو لم يتخط حد الاعتراف العقلي، والتصرّف شبه الواعي تجاه بعض تفاصيله.
يقول الروسي إيفان بونين (نوبل 1933)، وأقام في فرنسا عقوداً، للكاتب كونستانتين سيمونوف، الذي طلب منه العودة إلى الوطن: "أرجو أن تفهمني: من الصعب عليّ أن أعود إلى وطني شيخاً هَرِماً، فكلّ أصدقائي وكلّ أهلي يرقدون الآن في قبورهم، وسأسير هناك وكأنّني أعبر مقبرة". وصل السوريون إلى هذا الإحساس قبل أن يهرموا، فربما يعودون الآن إلى بلادهم بعد خمس سنوات فقط من الغياب، ليمشوا فيها كأنهم يمشون في مقبرة، والأسوأ أنها مقبرة جماعية.
وفي محاولة أخرى للبقاء على قيد الأمل، والاستمرار، على الرغم من كل ما يوحي بأننا سنعود فعلاً، إن عدنا، شيوخاً هرمين إلى البلاد، نتكئ من جديد على التاريخ، ليس تاريخ انتصاراتنا المزيف، أو ذاك الوهم الذي كان يشكّل ذواتنا المهشّمة، بل إلى التاريخ القائل إن الشعوب لا تموت، وإن الثورات الحقيقية لا بد ستنتصر حتى لو مرّت بعشرات الأنفاق المظلمة.. ولنقول إن السوريين سيعودون، ولو بعد حين، ليواجهوا كل هذا التشظي في بلادهم، كما في أرواحهم، ليبدأوا من جديد، سيكونون طائر الفينيق الذي لا يموت.
قد تُهدم البيوت فوق رؤوسهم، قد تباد مدن وتستباح أخرى، لكننا نصرّ على أن نؤمن بأن شعباً كالسوريين سيكون قادراً على حمل جراحه على كتفه، بكل ثقلها، والمضي إلى الحياة. نصرّ على الإيمان بذلك... ربما لنصنع، ولو في خيالنا المتعب، جسراً يلتقط أقدامنا من هذا الفراغ.
يقول يوسف زيدان "الملايين ممن ينوون الهجرة يكونون قد هاجروا نفسياً لحظة تقديم الطلب"، أو ربما لحظة البدء بالتخطيط لطريقة آمنة للخروج، و"النتيجة الفعلية أننا نعيش في بلد فيه الملايين من المهاجرين بالنيّة، أو الذين رحلوا من هنا بأرواحهم، ولا تزال أبدانهم تتحرّك وسط الجموع كأنها أبدان الموتى".
لكن الاغتراب الحقيقي يبدأ منذ اللحظة الأولى لارتكاب الرحيل بالقفز بين عالمين، حيث ما زال السوريون، منذ تلك اللحظة، "معلقين في الفراغ"، غير قادرين على استرجاع أقدامهم إلى الضفة الأولى، وغير قادرين على تثبيتها في العالم الجديد.
ومثل خيط واهٍ يربطنا بذلك العالم المدمر الذي تركناه، ويشدّنا، على الرغم من محاولاتنا البائسة في التقدم باتجاه عوالمنا الجديدة، تأتي أخبار الموت الطازجة عن أحد أقربائنا أو أصدقائنا، ليتجسّد الموت بصورة حقيقية أكثر مما عدنا نحتمل، لأن الضحية، هنا، محسوسة ومدركة تماماً أكثر من آلاف الأسماء التي نسمع عنها يومياً، ويحمينا جزئياً عدم معرفتنا بأصحابها، وليعيدنا هذا الموت الصادم إلى حالة النكوص الحاد التي نحمي بها أنفسنا ظاهرياً من الشعور بالذنب بلبس دور "الضحية"، والتي نبرّر فيها لأنفسنا الاغتراب الذي اخترناه، في محاولةٍ للتصدّي لما نخفيه لا شعورياً من عدم غفران للذات، لأنها اتبعت طريق خلاصٍ فرديٍ، يحمل بين طياته انهزاماً غير مشروع.
تفاجئنا حالة الموت الصادمة هذه بهول أننا كنا قد بدأنا الاعتياد على الموت العام واليومي. لكن مجرد فكرة الاعتياد هذه هي وصف آخر للاغتراب؛ للاغتراب عن أنفسنا، وعن أحاسيسنا ومشاعرنا. هي هوة أخرى تمتد بعمق في الفراغ المربك تحت أقدامنا، والذي سنسقط فيه لحظة إدراك موتٍ آخر، وكأن كل ما يحصل الآن عصي على الأرواح أن تعترف به، وهو لم يتخط حد الاعتراف العقلي، والتصرّف شبه الواعي تجاه بعض تفاصيله.
يقول الروسي إيفان بونين (نوبل 1933)، وأقام في فرنسا عقوداً، للكاتب كونستانتين سيمونوف، الذي طلب منه العودة إلى الوطن: "أرجو أن تفهمني: من الصعب عليّ أن أعود إلى وطني شيخاً هَرِماً، فكلّ أصدقائي وكلّ أهلي يرقدون الآن في قبورهم، وسأسير هناك وكأنّني أعبر مقبرة". وصل السوريون إلى هذا الإحساس قبل أن يهرموا، فربما يعودون الآن إلى بلادهم بعد خمس سنوات فقط من الغياب، ليمشوا فيها كأنهم يمشون في مقبرة، والأسوأ أنها مقبرة جماعية.
وفي محاولة أخرى للبقاء على قيد الأمل، والاستمرار، على الرغم من كل ما يوحي بأننا سنعود فعلاً، إن عدنا، شيوخاً هرمين إلى البلاد، نتكئ من جديد على التاريخ، ليس تاريخ انتصاراتنا المزيف، أو ذاك الوهم الذي كان يشكّل ذواتنا المهشّمة، بل إلى التاريخ القائل إن الشعوب لا تموت، وإن الثورات الحقيقية لا بد ستنتصر حتى لو مرّت بعشرات الأنفاق المظلمة.. ولنقول إن السوريين سيعودون، ولو بعد حين، ليواجهوا كل هذا التشظي في بلادهم، كما في أرواحهم، ليبدأوا من جديد، سيكونون طائر الفينيق الذي لا يموت.
قد تُهدم البيوت فوق رؤوسهم، قد تباد مدن وتستباح أخرى، لكننا نصرّ على أن نؤمن بأن شعباً كالسوريين سيكون قادراً على حمل جراحه على كتفه، بكل ثقلها، والمضي إلى الحياة. نصرّ على الإيمان بذلك... ربما لنصنع، ولو في خيالنا المتعب، جسراً يلتقط أقدامنا من هذا الفراغ.