لعبة

09 يونيو 2015
لوحة للفنان العراقي حنوش.
+ الخط -
الطفل الذي كنته ذات يوم، يحمل بداخله حلماً كبيراً. مع أن الحزن كان رفيقه، جاهد برسم بسمة على ثغره. في طرف الشارع يقبع منزل كبير بحوش أكبر. كان اختراقه بالنسبة له مجرد حلم. حقاً أني فكرت ذات يوم باختراقه، لكنه في الواقع مجرد حلم.
في يوم عملت على تحريض أصدقائي على اللعب في ذلك الشارع الطويل، الذي عادة ما يكون خاليًا من صخب السيارات. كنا نلعب الكرة. وصلت إلى قدمي، وبمكر مني قذفت بها إلى داخل ذلك الحوش ذي الأسوار العالية. وأخيراً اخترقت كرتي ترسانة ذلك السور. أسرعت لا أبالي بصراخ رفاقي، ومنعي من الذهاب نحو البوّابة المحصنة، ونعتهم لي بالجنون. لم أهتم، بل تقدّمت وكلي أمل باجتياز ذلك السور. وقفت أمام البوّابة، طلبت من الحارس الدخول محتجّاً بالبحث عن كرتي الأسيرة داخل ذلك الحوش. نظر إليّ بريبة. شعرت بتلك النظرة وما خلفها. أكدت له أنها لحظات فقط، أفتش فيها عن كرتي وأخرج من ذلك المعتقل.
كنت أخفي تحت ثيابي، لعبة أحضرتها من أجل فتاة ذلك المنزل. هي وحيدة والديها، وأسيرة، يطوّقها سور قصرها. لا تنعم بحرية اللعب في الشارع، كسائر الفتيات اللاتي في عمرها.
بعدما أجرى اتصالاً مع من كان في المنزل، سمح لي بدخول القصر. انفتح الباب لي. ولجت وكلي رهبة ورغبة في اكتشاف ما يتوارى خلف ذلك السور.
كانت عيناي ترصدان كلّ ما تقع عليه؛ السيارات الفارهة مرصوصات في طرف الحوش، حديقة تحوي ما لذّ وطاب. في إحدى واجهات القصر كانت نافورة تنفث الماء منها ليعود إلى قلبها من جديد، وزجاج إحدى الغرف يطلّ عليها. هي أوّل مرّة أشاهد فيها نافذة بتلك السعة، ولا جدار فيها. في ما بعد عرفت أن تلك الغرفة تدعى "المفرج"، هنالك وجدت ضالتي.

اقرأ أيضاً: إبادة الأفكار

آه، ها هي فتاتي التي أبحث عنها، كانت مغروسة بين مئات من الألعاب من مختلف الأنواع. تحسّرت على نفسي أنا الذي غامرت وحملت معي لعبتي لكي أهديها إياها. كانت تلعب، وعندما نظرت إليّ، فوجئت برؤيتي.
إنها حورية نزلت من جنّات السماء؛ شعرها الأسود تسجنه جدائل تسبح على ظهرها، عيناها العسليتان ترمشان بخوف من المخترق عزلتها، وكأنه قادم من كوكب آخر. تسمّرت نظرتها نحو ذلك الكائن ذي الثياب الرثة والشعر المجعّد، الذي لا يعرف متى كانت آخر مرّة عرف الماء طريقه إليه. نزلت نظرتها نحو قدميّ الحافيتين والمتشققتين. ابتسمتُ لها. ويبدو أن بسمتي الساحرة جذبتها، فجعلت عيني أكثر حدّة.
كانت ترتدي ثوباً إلى ما تحت الركبة بقليل، أحمر كلون خدودها. تنتعل حذاءً مربوطاً بوردة حمراء، تقبع الفردتان في قدمين ناصعتي البياض. تحمل بذراعيها الناعمين، لعبة تمشّط شعرها بحنان. يا الله ما أرقّ قلبها.
توقّف الزمن لحظة تقدّمي نحوها، أمد لها بلعبتي التي خاطرت بحملها إليها. أسرعت الخادمة المكلّفة بحراستها، ونزعت لعبتي. صرخت قائلة إنها ملوثة، بل إنها بقايا قاذورات رمتها في برميل القمامة. شعرت لحظتها بطعنة خنجر في صدري. نظرت إليّ ونهرتني وأمرتني بأخذ الكرة والخروج من الحوش.

اقرأ أيضاً: من يطلق الرصاص؟

كانت شرارات جهنّم تتقاذف من جوف عينيها. شعرت بالخوف وأسرعت أحمل كرتي وألوذ بالهروب من ذلك المنزل. خرجت أرسم بسمة الانتصار على اختراق ترسانة ذلك الحصن.
شرحت لرفاقي ما شاهدت. بالطبع لم أخبرهم عن فتاتي وعن لعبتي التي رُميت في برميل القمامة. كنت البطل المغوار في نظرهم.
منذ ذلك اليوم وأنا ألعب في ذلك الشارع، وتخترق كرتي ذلك السور. لكن في كلّ مرّة كانت تعود إليّ جثة ممزقة.
بعد مرور سنوات على تلك الأيام، اقتُحم ذلك السور وكنت أحد الأبطال، لم يهمني اقتحام المنزل لأجل تحريره بل من أجل تحرير فتاتي المسجونة بين أسواره. دخلت أفتش عن رائحتها بين ثيابها المنثورة المنتهكة حرمتها، وأمعن النظر إلى صور حياتها التي تُظهر مراحل عمرها المختلفة. في أحد أدراج دولابها، وجدت لعبتي مدسوسة بين حاجياتها الثمينة. وجدت اللعبة لكن لم أجد فتاتي.
(كاتبة يمنية)
المساهمون