لعبة الاصطفاف

29 مارس 2019
+ الخط -

ساءت سمعة كلمة الاصطفاف، تلك الكلمة التي يفترض أن تكون مفتاحاً صارت قفلاً صدئاً. في عام الانقلاب، عام حكم مرسي، بدلت النخبة المنقلبة المفاهيم بحيث صار استدعاء الجيش مرادفاً للثورة، والديمقراطية هي ألا تفوز، وتحكم، والسياسة تعني أن من ليس معي فهو ضدي، والتضامن أن تؤازر من ينتمي لحزبك فقط، والحقيقة هي ما تراه وحدك، والحيادية أن تناصر فيلقك، وليذهب الآخر للجحيم، والترشح للانتخابات خطيئة، والانقلاب ثورة شعبية، وأخيراً جعلوا الاصطفاف هو أن تتنازل عن كل شيء في مقابل اللاشيء ثم تعتزل، وتختفي، وتتبخر.

إن ألف باء اصطفاف، هو أن تدرس ماضيك وأن تقف على أخطائك، لا أن تعظم زلات غريمك لتحولها لخطايا، وفي المقابل تستصغر جرائمك وتصيّرها بطولات. أن تكون لديك رغبة حقيقية في الوقوف على أرض مشتركة مع خصمك في إطار مفاوضات يتنازل فيها كل طرف عن جزء من مطالبه، حتى يصل الجميع إلى مستوى مرضٍ أو شبه مرضٍ. أن يقبل كل فريق الحديث مع الآخر كلما بدا في الأفق بصيص أمل يمكن النفاذ من خلاله. الأمر لا يتطلب تراجعاً فكرياً كاملاً كما يتصور البعض. فعلى سبيل المثال، تراجع الدكتور عمرو حمزاوي منذ عامين بشكل أراه مقبولاً، حين اعترف في أحد البرامج أنه لا يندم على مشاركته في الثلاثين من يونيو، وأنه رأى وقتها أنها حق مشروع، ولكنه بعد حدوث الانقلاب أقر بأن التظاهر لمطالبة الرئيس مرسي بانتخابات رئاسية مبكرة جاء في توقيت خاطئ جداً، لأن فرصة استحواذ العسكر على السلطة كانت كبيرة، وهذا ما تسبب في الانقلاب. هذا نوع من البدايات التي يمكن البناء عليها، ولكن ماذا يحدث حقيقة في كوكب الاصطفاف؟

ظهرت مجموعة من الشخصيات المعروفة وانضم إليها بعض من أظهروا تمسكا بشرعية الرئيس مرسي. تدثرت هذه المجموعة بثوب رفض فض رابعة والنهضة ومناصرة المعتقلين ومهاجمة الانقلاب؛ روجت لفكرة الاصطفاف بين العائدين بخفي حنين من مربع الانقلاب، وبين المؤيدين للشرعية، كنوع من مزج زيت بماء يبوء كل مرة بالفشل. اعتبرت هذه الشخصيات أن الاصطفاف على أرضية يناير هو القاسم المشترك بين فصائل الثورة ؛ تبدو الأرضية محايدة للوهلة الأولى، إلا أنه بقليل من التدقيق تجد أنها تريد سحب فصيل الشرعية إلى حلبة معسكر 30 يونيو.

لنعد للوراء قليلاً. عندما فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة امتنعت نخبة يناير/ يونيو عن تقديم مرشح يمثل تكوينها الفكري، وقدم الإخوان مرسي ليصير بعد فوزه رئيساً للجمهورية. طالبت تلك النخبة مرسي خلال جولات ترشحه بتقديم وثيقة بنود موقعة رأوها ضامنة لتوجهاتهم ليدعموه، فرفض، وكانت هذه بداية المساومات.

طوال عام حكم مرسي لم يفرغ ميدان التحرير من المعتصمين محدودي العدد، وفي آخر كل أسبوع كانوا ينتخبون مجلساً رئاسياً يكون البرادعي رئيسه ويُختلف على النائبين، كان الضغط مستمراً ومضمونه إما أن ترضخ وإما أن نهدم المعبد على رأسك ورأس جماعتك. كان شبح الانقلاب يخيم منذ اللحظة الأولى. في هذا الوقت، كان الجيش ينتظر أن تأتيه النخبة، فهو يعلم أنه الورقة الرابحة التي لن تتم إزاحة النظام الشرعي بدونها، وقد كان. نجحت الثورة المصطنعة (الانقلاب العسكري) في الثلاثين من يونيو أو كذلك أشاعوا، واستعان العسكر برؤوسهم ففرحوا، وما لبث أن قطعها. عادت النخبة خائبة، لاعنة مرسي وفريقه، ومجروحة من العسكر الذين حملتهم على الأكتاف في يونيو، لتبدأ سلسلة جديدة من المحاولات.

سكنت النخبة بعد الهزيمة الثانية، فقد صاروا مكروهين لدى من أيدوا المنقلب ومن أيدوا المنقلب عليه. ظهر فريق الاصطفاف فغازل نجومها وأعاد تصنيع رافعة شعبية جديدة لهم، عبر تصويرهم كقشة الغريق التي تحظى بقبول لدى الغرب. استثمروا تعاطف معسكر الشرعية تجاه القتلى والمعتقلين، وانسداد آفاق الأمل أمامهم، وبغي النظام المنقلب وظلمه وطغيانه في إعادة تصدير كبار النخبة كحل وحيد بعد تشويه قادة حراك الشرعية الذين قدموا الكثير واتهامهم بالفشل. عادت النخبة للمساومة للمرة الثانية، فإما أن يقبل الإسلاميون التنازل عن أيديولوجياتهم، وأن يدعموهم صاغرين، أو فليستمتعوا بإقامتهم في المعتقلات. إنها عملية استكمال مساومات وصولهم للسلطة بعد الفشل الأول في يناير والثاني في يونيو. فهل هذا يعد اصطفافاً؟

تتعلل نخبة يناير/ يونيو دائما بأن أهل الشرعية يرفعون سقف طموحهم ولا يرضون إلا بعودة مرسي، ولا أرى أن تلك النخبة خفضت من سقف أحلامها في الوصول للحكم حتى ولو على حساب الدماء. يعلمون أن عودة مرسي ليست أمراً مستحيلاً، ولكنهم لا يرغبون فيها، لأنهم يدركون أن عودته، ولو ليوم واحد، تقتضي أن يحاكم من شاركوا العسكر في انقلابه بتهمة الخيانة العظمى؛ لذلك فخيار عودة مرسي غير مطروح حتى لو لفترة انتقالية وجيزة.

ليس أمام النخبة سوى تداول السلطة مع المنقلب وهو ما يثبت شرعيته عبر انتخابات رئاسية، أو ثورة جديدة تضمن الخلاص من الجميع أخوان وعسكر؛ ولكن ما يبعث على الغثيان، أن يستخدموا من انقلبوا عليهم سلماً ليرتقوا مسرح الأحداث، ولتسلط عليهم الأضواء من جديد. يصفون أهل الشرعية بالتعنت، وهم من بلغ بهم الوهن والضعف مبلغه، ولكنهم كذلك لا يقبلون بعد كل الأرواح التي أزهقت وكل العذابات التي ذاقوها، أن يلدغوا من نفس الجحر مرتين.

7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر