يستيقظ الطفل خليل المدهون في ساعات الصباح الباكرة، في حين ما زال الجميع نِياماً، لكنه لا يكترث للاستمتاع بساعات إضافية من الراحة ودفء الفراش، يضع في جيبه عددًا من "البنانير"، يخرج بها من بيته متلصصًا كي لا تصدر تلك الحبات صوتًا قد يُوقظ أمه غاضبةً أو مُتلهفةً على ابنها الصغير.
تكتيكٌ اعتاده الطفل الفلسطيني وغيره كثيرون، لكسر روتين العطلة النصفية وما بعدها، واللحاق بخيوط الشمس الدافئة صباحًا، ليجتمع المدهون مع اثنين من جيرانه الأطفال، بعد أن اتفقوا مسبقًا على التلاقي في أقرب نقطة رملية وافتراشها، ويبدأون لعبتهم الشهيرة "البنانير" أو "القلول" كواحدة من ألعاب التراث الفلسطيني.
و"البنانير، القلول، الدواحل" هي أسماء اللعبة الشهيرة في قطاع غزة، والتي تختلف في مسمياتها تبعًا للمناطق من أقصى رفح جنوبًا حتى بيت حانون شمالاً، وهي عبارة عن كرات زجاجية مختلفة الأحجام، تتنوع في ألوانها الجذابة الممزوجة داخلها، يُمارسها الأطفال على اختلاف أعمارهم في الإجازات المدرسية.
يُوضح المدهون (12 عاماً) الذي أراد طي صفحة عناء الامتحانات النصفية المدرسية للعام الدراسي الحالي، لـ "العربي الجديد"، أنه اعتاد على انتظار العطل الشتوية والصيفية ليجتمع مع أطفال الحارة، والتنافس فيما بينهم على اللعبة، التي تعتمد في قوانينها على من يحصد عددًا أكبر من القلول من المُنافس.
لم يرغب الطفل الفلسطيني بمواصلة حديثه، كونه يريد فقط أن يلعب القلول مع أطفال حارته، مناديًا على صديقه خالد بمباشرة وضع الخطوط، قبل البدء بالمنافسة فيما بينهم على عشرة حبّات من البنانير، اختاروها لتكون افتتاحية صباحهم البسيط، في ممارسة نشاطهم في اللعبة الأشهر بين الأطفال في غزة.
انسجام الأطفال الثلاثة باللعبة يضطرك لانتظارهم لحين انتهاء اللعبة، ليتحدث الفلسطيني خالد (13 عاما) بعدها عن حبه للقلول، ويقول لـ"العربي الجديد": "من صغري أجتمع مع أصدقائي لكي نلعب هذه اللعبة، وننتظر كل إجازة شتوية وصيفية نأخذها بعد الامتحانات المدرسية لنمارسها".
أمّا الطفل محمود (12 عاما) فلم تختلف دوافعه لممارسة لعبة القلول عن أصدقائه، في حين أنه يُحب استغلال أوقات فراغه في العطلة باللعب ومنافسة أقرانه، ويبين لـ "العربي الجديد"، أنهم يفضلون الاستيقاظ باكرًا لممارسة اللعبة، بسبب الهدوء الذي يسكن الحارة في ساعات الصباح الأولى.
ويلاحظ في الحارات والساحات الرملية بمدينة غزة، انتشار شريحة واسعة من الأطفال الفلسطينيين يتنافسون فيما بينهم من خلال لعبة القلول، كونهم توارثوا اللعبة من آبائهم وأجدادهم، ويحفظون قوانينها البسيطة التي تجعلهم يعيشون أجواءها الحماسية التي تُغيبهم عن الواقع الصعب الذي تعيشه عائلات غزة.
أمتارٌ قليلة بعيدًا عن الأطفال الثلاثة، لتجد مجموعة أخرى من الغزّيين الذين يلعبون اللعبة التاريخية، إذ يجثو الطفل محمود (9 سنوات) على ركبتيه، ممسكًا بـ "قل" بين أصبعي الإبهام والسبابة، يُحاول استجماع تركيزه لُيصيب عددًا أكبر من القلول التي وضعوها داخل المثلث الذي يمثل نقطة الهدف.
ويشير الطفل الغزّي لـ "العربي الجديد" أنه بعدما اشترى عشر حبات من القلول، قبل فترة من أقرب محل تجاري لمنزله، بسعر بسيط جدًا، نجح بحصد أضعافها ثلاث مرات، إذ يتباهى بأنه الأمهر بين أصدقائه في اللعبة، واعتاد دائما على هزيمتهم وكسب ما في جيوبهم من بنانير.
أمّا حسام (13 عاما) فيوضح قوانين اللعبة لـ "العربي الجديد"، أنه بعد وضع عدد من الحبات المتفق عليها في نقطة الهدف المسماة "المور"، يصبح التنافس بين الأطفال على تصويب "قُلهم" نحوه ومحاولة جمع ما فيه، عبر إصابة أكبر عدد من الحبات، إضافة إلى فوز من يُصيب "قل" غيره من أصدقائه.
أمّا انقطاع التيار الكهربائي فكان دافعًا للطفل محمد (14 عاما) لمشاركة أقرانه في اللعبة في الساحة الرملية المُطلة على منزلهم، ويقول لـ"العربي الجديد": "لساعات طويلة لا يوجد كهرباء لكي نشاهد التلفاز أو نلعب ألعاب الفيديو، أما القلول فلا تحتاج لذلك وهي لعبة ممتعة ومسلية ونحبها".
في حين تنتهي منافسات الأطفال اليومية باللعبة ، عند نزول المطر أو حلول المساء الذي يُصعب من قدرتهم على ممارستها، حتى مرسال "مبعوث" من الأمهات لأطفالها بوجوب العودة فورًا للمنزل والاكتفاء بذلك القدر من ساعات التسلية التي تُحفزهم على النوم باكرًا وانتظار صباح آخر من "أولمبياد" القلول الفلسطيني.