ثمة علاقة ملتبسة تعيشها المجتمعات العربية مع ذاكرتها الجماعية، ما يولّد كثيراً من الاحتقانات والصدامات. في عمله الجديد، الذي يقدّمه غداً في الجامعة التونسية، يحاول المؤرّخ التونسي لطفي عيسى أن يقارب هذه المسألة، معتمداً على تخصّصات توازي المناهج التاريخية.
صدر كتاب "بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحوّلات الهوية" منذ أيام في المغرب عن منشورات "أفريقيا الشرق". يقول عيسى في حديثه إلى "العربي الجديد": "أرى أن العلاقة بالذاكرة الجماعية موضوع مسكوت عنه في ثقافتنا اليوم"، لكنه يشير من جهة أخرى إلى أنه موضوع مبذول في الغرب. ويضيف بأن السؤال المحوري لعمله هو "كيف نحتفي بالذاكرة؟".
يحيلنا صاحب كتاب "مغرب المتصوّفة" إلى النظريات التي اعتمدها في مقاربته لهذا الموضوع في إطاره الشمال أفريقي، حيث يشير إلى أعمال عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالفاكس الذي تناول الذاكرة من جهة كونها تراكمات اجتماعية، وكذلك إلى المؤرخ المتخصّص في العصور الوسطى جاك لوغوف حين ربط الذاكرة بالنسب. أما أهم ما استند إليه، فهو أعمال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور حين أوضح ميكانزمات تمارس على الذاكرة الجماعية مثل: إيقاف الذاكرة والتلاعب بها وإجبارها.
يرى عيسى أن كل هذه الكتابات قد أعادت ترتيب مسألة الذاكرة، ولا بد أن نستفيد من ذلك في المجال العربي الإسلامي، حيث يعتبر بأنها تساعدنا في فهم الكثير من الظواهر في حضارتنا، خصوصاً في ما يسمّيه بـ "المسكوت عنه" تاريخياً.
برأي عيسى، فإننا لا زلنا نكتب تاريخاً ممركزاً حول أنفسنا، تماماً كما يكتب الغرب تاريخاً ممركزاً حول ذاته؛ ما يفسّر، بالنسبة إليه، عدم القدرة على التطوّر الحضاري السليم.
استدعاء عيسى لأدوات من خارج علم التاريخ يطرح تساؤلاً حول هذا التوجّه، يجيب بأن "طريقة الأداء المعروفة في كتابة التاريخ انتهت". من هنا يرى أن "طموح المؤرخ" اليوم ينبغي أن ينبني على أمرين؛ الأول هو المقارنة، والثاني هو تخطّي الاختصاص؛ ما يمكّنه من استغلال براديغمات وأجهزة نقدية لا تتوفر له ضمن أدوات علم التاريخ.
لعل أهم تطبيق يقدّمه عيسى في كتابه هو اشتغاله على مفهوم الهوية، التي يعرّفها بـ "الانتساب إلى مجال، والوعي بذلك". يؤكد بأن الانتساب هنا يحمل معنى جمعياً بالضرورة ولذلك ينبغي أن نفهم مكوناته المتعددة.
على مستوى تطبيقي، يدرس المؤرخ التونسي الذاكرة الجماعية في المغرب العربي من خلال أربعة مستويات، هي: القرن السادس عشر باعتباره القرن الذي تمت فيه تصفية العصر الوسيط. في المستوى الثاني، يدرس المؤسسات السياسية عبر تساؤل حول استمراريتها؛ وهو هنا يدرس مفهوم "المخزن" الذي أبدل عملية خلق الثورة بتسوّلها. في مستوى ثالث، يذهب إلى المؤسسات الروحية، مثل الزوايا. وفي الرابع، يبحث في ظاهرة الازدواجية الثقافية، خصوصاً من خلال القادمين من الأندلس؛ متسائلاً "كيف بني المنفى في أذهانهم؟".
اقرأ أيضاً: إدموند دوتي: استعمار من بوّابة الأنثروبولوجيا