لستُ الطفل ولا الكلام

06 أكتوبر 2015
لوحة للفنان الفلسطيني محمد جحا
+ الخط -
لطالما تخيّلْتُ حياةً ليستْ لي. الأمرُ الوحيد الذي يهزّني هو الصّمْت. لا أجد مكاناً أفضل من مكان صامت. مع ذلك فإنّ الصمتَ مخيفٌ وموحش، غير أن قضاءَ الوقت مع الأصدقاء كلَّ يومٍ أكثرُ إخافةً.
عندما أسيرُ أشعر أنني أسقط. البقاءُ في البيت هو العمل الوحيد. حياتي تتجمد داخل عيني، غيرَ أنّ الهواءَ الذي يحرِّكُ ستارة نافذة المطبخ، وضوءَ الشمس الذي يكادُ يلمس كلَّ شيء عدا عقلي، يؤكد لي أنّ أيام البشر مستمرة كأيامِ الدّود والكلاب والأشجار والحجارة. لكنْ، على أي نحْوٍ. في جيبي الآن خمسمئة ليرة. أنتظِرُ حوّالةً مالية لم تأتِ. إذا تأخّرَتِ الحوالةُ أكثر سأضطر إلى السرقة، غير أنني امرؤ جبان. لا أنفعُ للسرقة التي تعيد لبعض الناس صوابَ الحقّ الذي ضيّعوه إلى الأبد. لا أحبُّ العمل لأنني لا أجرؤ على السرقة. أعلمُ أنني مريض، غير أنني أخفي بأقنعة كثيرة وجهاً واحداً، وجهَ الخزي والخنوع والبطالة والكسل. أمشي متحمساً على رصيف عريض قرب فندق ضخم. ثمة واجهات بلورية كبيرة عالية تعرضُ قطعاً ذهبية ناعمة وحقائب جلدية فاخرة، وبناطيل ممزقة وفساتين سهرة تشعرك الآن أنّ عرْيَ لابساتها لا يُطاق. تمرُّ جنبي صبيّتان محجّبتان لهما من حماس المشي نصْفُ حماسي، فأحاول تقليدَ سرعة مشيتهنّ بإبطاء خطوي. أتسَمَّعُ كما لو أن الفرصة مواتية للتنصت: من يشتري هكذا أشياء غالية، من يمكنه أن يدفع مبالغ كثيرة كهذه؟ يأتي الردُّ على الفور على وقع الخطوات العجولة: ثمة من يدفع. رفعتُ رأسي لأنسى الكلامَ الذي يدور كحجرٍ يطحنُ أذني. كانَ ثمة طفلٌ ضئيلُ الجسم، جمع ركبتَيْه إلى صدره وأسندَ ظهره إلى جدار الفندق الحجري، وأمامه ميزان أبيض الحواف صغير. على الفور بدأت بحثاً مشوقاً لأجد رابطاً أيّ رابطٍ كان بين المعروضات الفاحشة وحماسة المشي وغلاءِ الأسعار ومنظر الطفل. كلُّ ذلك حدثَ خلال ثوانٍ قليلة. كنتُ أنا الصامتَ الأجوفَ أشبَهَ بالوعاء الذي سقطتْ فيه كلماتُ صبيّتَيْن عابرتين، وما تزال ترنُّ لحظةُ السقوط في أذني كما لو كان السقوط معدناً من الموسيقى الهائمة، وكانت عيني المكانَ الذي فيه انعكستِ البطاقاتُ البيضاءُ الصغيرةُ حيثُ دُوِّنَتْ الأسعارُ القاتلة، وبالعيْنِ نَفْسها رأيتُ الطفلَ والجدارَ الصّلبَ والميزانَ الصغير.

اقرأ أيضاً: قصائد جديدة لـ "علي جازو"

حدث ذلك في مساءٍ خريفيّ صافٍ يابس بلا غيوم وبلا نسيم. لم تكن ريحٌ ولا أوراقٌ صفْرٌ كما تعلّمُنا الأغنياتُ الشائعةُ الرتيبة. كانتْ لوحاتُ إعلانٍ ضخمةٌ تواصِلُ لمعانَها الجامدَ المستمرّ والحيوي، لوحاتٌ لا يعنيها منظرُ الطِّفل ولا كلامُ الصبيّتَيْن ولا ألمُ عيني. إنّ هذه اللوحاتِ نفسها تحوِّلُ المشاهدةَ إلى عملٍ بصريّ مجرَّد. إنّ إضاءتها القوية المستمرة تعلن على الملأ أنّ الفضاءَ لها، وأنّ الضوءَ الشنيع كلامُها الباقي، حتى ولو كان بقاءَ ذلك الضوء طريقةً لنسيان الجدار واستنادِ الطفل إليه وكلماتِ الصبيّتَيْن العابرتين الرصيفَ الذي لم يجدْ أحداً يتكلّمُ عنه. كان الرصيفُ خاضعاً للخطواتِ خضوعَ العينِ للضوء. لذلك كانتِ الحماسةُ البلهاءُ منسجمةً مع النسيان الذي يرافق الصمتَ ويساوي بين القلق والغرق والجمود والانحطاط والثرثرة. كنتُ أبحث عن نَفْسي في ذلك المساء، غير أنني لم أجد غير مشاهد غريبة أتلَفَتْ ما تبقّى من نورٌ في عيني. لم أجد غيرَ الموت، وأكملتُ طريقي من خلاله إلى المقهى. لقد غدا الممثّلون الذين يرحبون بالدعايات ترحيبهم بالنضال الأممي، عبئاً على المتفرجين الذين لا يرحمون أنفسهم من النظر ولا التعليق على خفايا عالمٍ لا يستحقّ غير الاشمئزاز. لم يدمِّرْ كلامُ العابرتين جدارَ الفندق البهيميّ، فظلّتِ البطاقاتُ مكانَها في سلامها الورقي الضعيف خلف زجاجٍ يبقى نظيفاً لامعاً رغم كلّ شيء، وكذلك الصبيُ الجالسُ أمام الميزان. العينُ تكرهُ لأنها تحزنُ، فيما كلامُ الصبيّتَيْن، المفترَضُ حدوثه بسبب الرؤية، لم يكنْ في مستوى إحساسهما البصريّ. لقد بحثَتِ الصبيّةُ التي ردّتْ على زميلةِ خطواتها عن تفسيرٍ يبرّرُ وجودَ بضاعةٍ فاحشة الثمن أمام عيون بشرٍ يعبرون الشوارعَ كما لو أنّهم بلا أيّ مأوى. لم تسأل الصبية التي تكلّمتْ أولاً عن سبب وجود طفلٍ أمام ميزان أبيض صغير أسفل الفندق الضخم العالي. لم تفكّرْ إنْ كانَ حَدَثٌ مثله، في ذلك الوقت، يجلسُ في مكانٍ يناسب عمرَه. إنّ كلامَ الصبيّة الأولى لم يخرجْ من بين أسنانها، لقد تخطّى شفتَيْها فقط كما لو أنه الضوء نفسه الذي لمع منعكساً للحظةٍ قرب فمِها المظلّل بزجاج نظّارتها ذات الإطار الأسود الرفيع. إنّ كلاماً يُبْنَى على هكذا نوعٍ من التفكير أثناء محادثة عابرة يناسب ضوءاً بهذه البشاعة يقدر على جعل العابرين محضَ ظلال ضئيلة متْلَفة حيث كلّ خطوةٍ تسقطُ في ضحالتها الراكدة حتى يغدو السّيْر كالطرد، والتكلّمُ كالنسيان، واللقاءاتُ مقدماتٍ كابية لوداعات لزجة. لقد كان مرأى الطفل غيابَه الثقيل أسفلَ جدارٍ بتلك الضخامة والمتانة والخواء والانغلاق الكابوسي، وبدلَ أن يحرِّكَ منظرُهُ الغريبُ عنفاً رافضاً في العين، تحوَّلَ إلى إعدامٍ كامل لوجوده. رأيتُ كلَّ ذلك وأكملتُ خطّ سَيْري المتحمس الأرعن كما لو أنني لستُ الطفلَ ولست الجدارَ ولا الضوءَ لا، ولا النظرَ ولا الكلامَ ولا الرفضَ.
المساهمون