لجوء وكبرياء
لم أستوعب معنى أن تحيا بقية عمرك على أمجادٍ ما كانت إلا في بيت جدّي لأمي، حيث كانت جدّتي تتحدّر من مدينة يافا، وتعتز أنها كانت ابنة عزٍّ ودلال، حتى تعرّف جدي إلى والدها، وكان يعمل تاجر خضار وفاكهة بالجملة، فيشتريها من تجار يافا، وينقلها إلى غزة، ويبيعها لتجار التجزئة، ويطلق عليه الـ"كومسينجي"، حتى تزوج بجدتي، واستقر معها في عروس البحر، حيث السحر والجمال. وظلت جدّتي تتفاخر بأنها السيدة المدنيّة الراقية التي تزوجت فلاحاً، نشأ يتيماً، فلم يعرف شيئاً عن التعامل مع النساء، وظل فظّاً بطيبةٍ غير ظاهرة طوال حياته. ولم تتوقف يوماً جدّتي عن ندب حظها أمامه، كلما طلب منها أن تضع فتات صفار البيض في مناقير الكتاكيت، وألا توقعها أرضاً، فهي كان من الممكن أن تتزوج أحد أقربائها، وتنزح إلى بيروت إبّان النكبة، لكنها تزوجت هذا الغزاوي، ولجأت معه وحيدةً إلى غزة، وظلت كما كانت تقول "مقطوعة من شجرة".
الطريف أن حباً غير معلن كان يجمع بين جدّي وجدتي، وكانت جدّتي لا تخلع من معصمها إسوارة ذهبية على شكل حية ذات رأسين، غير مكتملة الاستدارة. ووقتها، كانت هذه الموضة الدارجة في مصاغ العرائس، فيقدّم العريس لعروسه ما تعارف عليه بـ"الشبكة"، هذه "الحية" التي يلتهم رأساها بعضهما بعضاً، كل على حسب مقدرته، فقيمتها تختلف حسب وزنها. وهناك من يقدّم واحدة، وهناك من يقدّم زوجاً منها، وكان أفضلها، حسبما ذكرت جدّتي، تلك التي اشتغلها الصاغة المصريون، واكتشفت، بعد ذلك، أنها معروفة في الصعيد المصري، وتتزيّن بها زوجات الأعيان والوجهاء، ويطلق عليها اسم "الإسوارة الثعبان".
بعد نكبة فلسطين، والاستقرار في بيت صغير في غزة، أصبح جدّي وجدتي وحيديْن، لأن كل الأبناء والبنات نزحوا تباعاً إلى مصر والأردن، خوفاً من مهاجمة عصابات اليهود البيوت، وإقدامهم على قتل الشباب، فآثر جدّي أن يبقى وحيداً مع جدّتي، كبش فداء عن عشرة أبناء تفرّقوا حتى عادت أمي في 1969 إلى الوطن. وهكذا، عاش جدي وجدتي سنواتٍ من ضنك العيش، عرفت متأخرة كيف استطاعا أن يعيشا من دون أن يظهر ذلك علانية. وظلت جدتي تتفاخر حتى أواخر أيامها بأنها "مدنية"، وتلبس الزي المميز لسيدات يافا الراقيات، حتى بعد أن تخلين عنه، لكنها ظلت تصر على ارتدائه حتى وفاتها، وكانت معروفةً ومشهورةً في الحي بأنها السيدة اليافاوية. وعلى الرغم من أن بيت جدي وجدتي كان غالباً ما يكون خالياً من الطعام، إلا أن عزّة نفسٍ لا توصف كانا يمتلكانها حتى وفاة جدّتي في شتاء 1980.
أذكر أنني ذهبت، في طفولتي، في زيارة معها إلى سيدةٍ ثريةٍ تتحدّر من عائلة غزاوية عريقة في بيتها الفخم، وقدمت لنا السيدة طبقاً من الكعك والمعمول. وهنا، لكزتني جدتي في خاصرتي، مهددة لي ألا أمد له يداً، وادّعت جدتي أن معدتينا ممتلئتان حتى التخمة، وأن قطعة من حلوى الضيافة هذه كفيلة بأن تودي بنا إلى حتفنا، والحقيقة أنني كنت أتضور جوعاً. وكنت أمكث في بيت الجدين الفقيرين طوال الوقت، ولا أعود إلى بيت عائلتي الثرية إلا لماماً، فتشربت كل عادات جدتي وطقوسها.
اكتشفت الحقيقة متأخرة، فجدّتي كانت ترهن إسوارة الحية، كلما ضاق بها الحال، وتتصرّف بثمن "الرهنية"، حسب تعبيرها، وتنفق منه، حتى يرسل لها أولادها من المنفى بعض المال، فتفك رهنها، وتعيدها إلى معصمها. ولم يلحظ أحد اختفاء الإسوارة من معصم جدّتي أياماً قد تطول، إلا أن اسمرار لونها لم يخف عليّ. وكرّرت جدّتي الأمر كثيراً حتى وفاتها، فقرّر جدّي أن يبيع الإسوارة، ويؤدي فريضة الحج نيابة عن جدّتي، لأنها لم تؤدّها في حياتها، لكن جدّي، حين ذهب لبيع الإسوارة، اكتشف أنها من النحاس، ولم تكن أبداً من الذهب الخالص، كما اعتقدنا.