لبنان يحاول استعادة 21% من أراضيه... من الطفّار

14 فبراير 2015
الدولة اللبنانية تلاحق مطلوبين بـ37 ألف جريمة (GETTY)
+ الخط -
باشرت الدولة اللبنانية تنفيذ خطتها الأمنية في منطقة البقاع، تحديداً في قضاء بعلبك (شرقي لبنان)، وكانت محصلة الساعات الأربع وعشرين الأولى توقيف 56 مطلوباً، وضبط طنّين من المخدرات و18 سيارة من دون أوراق رسمية (مرجح أن تكون مسروقة). أعلن الجيش اللبناني في بيان له هذه الأرقام والمحصلات، ليأتي موقف وزير الداخلية، نهاد المشنوق، ويؤكد استمرار الحملة الأمنية، مشيراً إلى وجود "37 ألف مذكرة توقيف بسبب أفعال جرمية بسيطة"، أي مخالفات القوانين البسيطة وإطلاق النار ابتهاجاً أو حتى تهرّب من دفع الرسوم أو البناء بدون رخص. أما عدد المجرمين الفعليين المطلوبين بجرائم قتل وسلب وخطف ومخدرات، فلا يزال مستوراً عن الإعلام في ظلّ تأكيد مصادر أمنية لـ "العربي الجديد" عن وجود "ألف مطلوب بجرائم جدية، العمل جار على توقيف الخطرين منهم وهم بالعشرات يترأسون عصابات السرقة والخطف والاتجار بالمخدرات".

وإذا كان البقاع اللبناني معروفا بمدينتي زحلة وبعلبك كمعلمين سياحيين بارزين، يجب القول أيضاً إنّ قضاء بعلبك (يشكل 21 في المائة من مساحة لبنان)، الممتدد من زحلة جنوباً إلى الهرمل شمالاً، أصبح في الأعوام الأخيرة معقلاً لعصابات السرقة والإخلال بالقوانين، نتيجة عوامل كثيرة، تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية. اجتمعت كل هذه العوامل وتراكمت منذ عقود لتفجّر أزمة فعلية تجسّدت في السنوات الماضية، لتعيد إحياء ظاهرة الطفّار، الذين يطفرون إلى الجرود والجبال هرباً من الدولة وأمنها لارتكابهم الجرائم المختلفة، فتعمل الدولة اليوم على ملاحقتهم لوضع حد لهذه الحالة المتفاقمة، والتي تطال آلاف المواطنين في بعلبك وغيرها من مناطق البقاع اللبناني.

ظاهرة الطفّار

يعيش البقاع في ظلّ ظاهرة "الطفّار" منذ أكثر من قرن، أيام الحكم العثماني التي شهدت أبرز حالات الطفّار، المتمثلة بأبو ملحم قاسم المصري الذي واجه الجيش التركي بالسلاح والنار وقتل العشرات منهم على مدى عقود. فكان من قطاع الطرق الأبرز في المنطقة، يسرق ليهب الناس الأكل والشرب كأسطورة "روبن هود". وكان لنشاطه هذا بعد سياسي أيضاً، باعتبار أنّ الهرب إلى الجرود كان أولاً وأخيراً من الحكم التركي، واحتجاجاً على الرسوم والقوانين التركية المفروضة على الناس. حتى أنّ الروايات المتعددة حول أبو ملحم تقول إنه واجه الحاكم العثماني، جمال باشا (السفاح)، في اسطنبول وعجز الأخير عن توقيفه أو إعدامه خوفاً من ردة فعل العشائر في لبنان. ظلّ المصري من الطفار حتى في فترة الانتداب الفرنسي، الذي تعامل معها وفق الطريقة نفسها، فكان أحد أبرز المطلوبين لسلطة الانتداب وصدّ هجوماتها المتلاحقة على قرى البقاع. هكذا تشكّلت حالة اجتماعية وسياسية بوجه السلطات كافة التي أرادت وضع حدّ لخروجه عن القانون.

يستمدّ طفّار البقاع مسيرتهم اليوم من هذه الروايات والتجارب القديمة، متسلّحين بالإهمال الرسمي لمنطقتهم منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية. ويعزّز نظرتهم هذه، الحالة العشائرية التي لا تزال حاكمة في المنطقة، وفق مبادئ وأصول اجتماعية وأخلاقية تحمي أبناءها. وبرز قبل عقدين اسم طيفور المقداد، الذي قتلته السلطات اللبنانية في أغسطس/آب 2000، بعد صدور 177 مذكرة عدلية بحقه بجرائم سرقة سيارات واتجار بالمخدرات وقتل واتجار بالسلاح وترويج عملات مزورة وتشكيل عصابات منظمة ومقاومة رجال قوى الأمن، بحسب بيانات الشرطة اللبنانية.

الحماية السورية

لكن تخلّص الدولة من طيفور، الذي لا يزال اسمه مرجعاً لدى الناس في مناطق بعلبك، كان له أبعاد سياسية وشخصية تتعلّق بالسلطة الفعلية حينها، أي بسلطة الوصاية السورية على لبنان. فيقول البعض إنّ طيفور الذي تمكن من الهرب لأكثر من عقد من الزمن، وقع نتيجة اتفاق سياسي خطّته السلطة السورية الحاكمة، بزعامة رئيس وحدة التنسيق والارتباط اللواء غازي كنعان في حينها، للتخلّص منه. تم الأمر وقضى السوريون على ظاهرة طيفور المقداد. 

كذلك كانت الحال أيضاً في إسقاط الحصانة النيابية عن النائب السابق يحيى شمص عام

1996، وإعلان كنعان ومَن معه في السلطة تورّط شمص بالاتجار بالمخدرات. في المقابل، كان السبب معروفاً وراء الإطاحة بشمص، وهو خلاف شخصي بينه وبين كنعان، وعندما انتهى الخلاف صدر قانون عفو عن شمص خرج بموجبه من السجن.   

ليس غريباً أن يتحدث وزير الداخلية اللبنانية، نهاد المشنوق، اليوم عن "هرب عدد من المطلوبين إلى سورية" قبل ساعات من إطلاق الخطة الأمنية، باعتبار أنّ الأراضي السورية تشكّل امتداداً طبيعياً للبقاع (أو العكس)، بالإضافة إلى كون قيادات فيها كانت حاضنة بعض الطفّار والمجرمين للاستفادة منهم مالياً خصوصاً.

يطغى اليوم اسم نوح زعيتر على لائحة المطلوبين لدى الدولة اللبنانية، بمئات مذكرات التوقيف والأحكام الغيابية. لدى الرجل صيت طيّب لدى أهالي قرى بعلبك، باعتباره يؤمن لهم فرص العمل ولو كانت غير شرعية وتعمل الدولة على مكافحتها، في حين هذه الدولة عاجزة عن تأمين الوظائف وأبسط حقوق مواطنيها كالطبابة والتعليم. فعلى طول البقاعين الأوسط والشمالي، من زحلة إلى الهرمل، ثلاثة مستشفيات حكومية فقط لأكثر من نصف مليون ساكن دائم في المنطقة. في حين لا تشكل نسبة المدارس في المنطقة 9 في المائة من نسبة المدارس في لبنان، على الرغم من كثافتها السكانية صيفاً وشتاءً. هكذا تترك الدولة اللبنانية، ومعها الأحزاب السياسية، أهالي المنطقة غارقين في ظروف اقتصادية صعبة تدفعهم إلى الخروج على القانون.

يصعب على المسؤولين اللبنانيين والأحزاب التعامل مع ظاهرة الطفّار. هؤلاء مجرمون ومطلوبون للعدالة، وفي الوقت عينه هم أبناء عشائر وعائلات كبيرة ومؤثرة قادرة، ويشكّلون النسيج الاجتماعي الفعلي في البقاع. انطلاقاً من هذا الواقع، يمكن فهم كيفية تعامل كل من حزب الله وحركة أمل (برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري) مع بيئتهما الاجتماعية البقاعية. انتقل نشاط المطلوبين إلى ضاحية بيروت الجنوبية (مقرّ قيادة حزب الله)، ولم يتمكن الحزب من فعل أي شيء لوقف الأمر، فبات محكوماً عليه بالتعايش مع أبناء العشائر المطلوبين، أو غض النظر عنهم أو التساهل معهم. ما يعني بشكل أو بآخر أنّ هذه الأحزاب غير قادرة على منح الدولة وأجهزتها الغطاء اللازم للقيام بمهامها في ملاحقة المطلوبين.

المساهمون