صار تنظيم "داعش" نجم الساحة الإعلامية. يُمكن لأي وزير داخلية أو دفاع في هذه المنطقة، أن يخرج ويُحذر من هذا التنظيم. بات شماعة كل شيء. يُمكن أن تُعتقل لأشهر، والتهمة جاهزة: تنتمي لـ"داعش".
ما يجري في لبنان شبه مطابق لهذا الوصف. تنسب العديد من وسائل الإعلام المحليّة روايات متخيّلة عن أعمال أمنية في ضواحي بيروت لـ"داعش". تُردد هذه الوسائل بأن المخيمات الفلسطينيّة باتت مقراً يُدير منه "داعش" عمليات مالية وعسكرية كبرى.
لكن المعطيات تقول عكس ذلك. فمنذ أن اتُّخذ القرار السياسي بتطبيق خطة أمنية في مختلف المناطق اللبنانيّة، في شهر أبريل/ نيسان الماضي، بدأت الحالات المرتبطة فكرياً بتنظيم "داعش" بالانحسار. كذلك تأثرت الحالة المرتبطة بجبهة النصرة.
ففي الأشهر الماضية، نشطت مجموعات قريبة من "داعش" في بعض المناطق شمالي لبنان، وخصوصاً في مدينة طرابلس. وصل الأمر بهذه المجموعات إلى الاعتداء بالضرب على أحد رجال الدين وسرقة سيارته، بسبب مواقفه المعادية لهذا التنظيم. كما أرسلت جبهة النصرة موفداً إلى طرابلس، وهو أحد اللبنانيين الذين قاتلوا في أفغانستان. التقى الرجل عدداً من الأشخاص المقربين فكرياً من جبهة النصرة، بهدف وضع هيكلية تنظيمية لها في لبنان. لكن يبدو أن مسعاه اصطدم بحالة شعبية لا ترحب بهذا العمل.
لكن أخطر ما حصل، هو وصول أكثر من 25 لبنانياً من قلعة الحصن السورية إلى لبنان، بعد سقوط هذه المنطقة بيد الجيش السوري. وهؤلاء خرجوا من لبنان إلى أفغانستان قبل الحرب الأميركيّة على أفغانستان عام 2001. تدربوا وقاتلوا ونشأوا في ظروف صعبة. باتوا لا يشبهون المجتمع اللبناني.
ضربات فرع المعلومات
بعد أسابيع على تنفيذ الخطة الأمنية، سلّم عدد من قادة المجموعات المسلّحة أنفسهم للجيش اللبناني، في إطار اتفاق يقضي بحل ملفاتهم، كي لا يبقوا في السجن لفترة طويلة. أطلق سراح بعض المسلّحين، فيما أحيل آخرون إلى القضاء بتهم بسيطة.
في هذا الوقت، بدأ فرع المعلومات، التابع لقوى الأمن الداخلي، بتوجيه ضربات سريعة وحاسمة ضد المجموعات الإسلاميّة المرتبطة بالفكر الجهادي. اعتقل الفرع معظم اللبنانيين الذين جاؤوا من قلعة الحصن إلى طرابلس. لم يُعلن الفرع عن اعتقالهم بعد، رغم أن هذا الأمر حصل منذ أكثر من شهر. كما أنه لم يُحلهم إلى القضاء، ولا يُعرف عنهم شيئاً. كما اعتقل فرع المعلومات الشيخ عمر بكري فستق، وهو أحد المتشددين الذين يُجاهرون بخطاب تعبوي وطائفي.
مثّلت هاتان الخطوتان مؤشّراً للجهاديين بأن منطقة الشمال لم تعد مكاناً لهم. فبقاؤهم يعني افتعال اشتباك مسلّح مع فرع المعلومات والجيش اللبناني، في ظلّ غياب الغطاء السياسي والشعبي لهذا الاشتباك. كما أن الجهاديين يُدركون تماماً قدرة فرع المعلومات الأمنية، وفهمه الجيّد لملفهم. وأهم من ذلك، أن البيئة الشعبية التي يُفترض أنها الحاضن للجهاديين، باتت أقرب إلى فرع المعلومات.
في الوقت عينه، كان الجيش اللبناني يوجه ضربات متتالية لبعض الخلايا الجهادية التي استطاعت بلورة عملها، عبر عمليات انتحارية وتفجيرات طالت الضاحية الجنوبية لبيروت ومنطقة الهرمل، شرقي لبنان.
الهجرة إلى سورية
انطلاقاً من هذه الوقائع، غادر أكثر من مئة جهادي قريب فكرياً من "داعش" وجبهة النصرة، طرابلس والشمال باتجاه تركيا، ومنها إلى سورية. اختار المقربون من جبهة النصرة منطقة كسب وريف اللاذقية، حيث تعمل جبهة النصرة بشكلٍ أساسي، فيما توجّه المقربون من "داعش" إلى مناطق أخرى يعمل فيها التنظيم.
تؤكّد مصادر إسلاميّة أن مَن توجّه إلى ريف اللاذقية، استقر وبدأ بعمله "الجهادي". واللافت أن هؤلاء يعتبرون أن معركتهم مع "داعش" أولوية على أي معركة أخرى. وهذا ينطلق من معتقداتهم الدينية، إذ يرون في عناطر التنظيم "خوارج هذا العصر".
بعد هذه "الهجرة"، لم يبقَ في طرابلس وشمالي لبنان سوى أفراد غير قادرين على السفر بسبب ملاحقتهم من قبل الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة. بعضهم لاذ بالفرار واختبأ ليبقى بعيداً عن أعين الاجهزة الأمنيّة. وقام آخرون بتوزيع معلومات خاطئة وصور قديمة لهم في سورية، وذلك بهدف إيهام الأجهزة الأمنيّة أنهم هناك ولم يعد لديهم أي نشاط في لبنان.