لبنان... الموت البطيء

03 سبتمبر 2016
+ الخط -
في بلد موبوء كلبنان، بات سهلاً أن تجد نفسك في أي لحظة، مرمياً على قارعة الطريق. بلاد الأرز تتدحرج نحو الهاوية، من دون أدنى اهتمام، لا من السلطات ولا من الشعب. الأمراض منتشرة كالطفيليات، في الهواء والماء والتراب. يندر أن تجد مقيماً في لبنان يتمتع بصحة جيدة. جبال النفايات باتت من يوميات الحياة. المستشفيات لم تعد قادرةً على تحديد أنواع الأمراض والفيروسات المتنقلة المولودة كل يوم. الأمراض السرطانية تتغلغل في لبنان بوتيرة متصاعدة. لا حلول طبية في الأفق، ولا معالجة جدّية لمسببات الأمراض.
مصانع الكهرباء لم تتبدّل، منذ أيام الاحتلالات المتعاقبة. أعمدتها تبثّ السموم في مختلف المناطق اللبنانية. في بيروت، تحتل مكبّات النفايات والمسالخ مساحاتٍ شاسعة من البرّ والهواء. الموت الذي كان بعيداً عنا يوماً ما بات أقرب من خيط قطن. تجاوز الوضع الصحي ما تعانيه بعض الدول المعدمة، منعكساً على الوضع النفسي، وبالتالي، الدورة الاقتصادية والحياة الاجتماعية.
بتنا نودّع أشخاصاً من الحياة أكثر مما نستقبلهم. سياسيونا لا يهتمون، ففي أي لحظةٍ يعتلون الطائرة ويغادرون، بينما نموت في أحزمة بؤسنا ومناطق سكننا. لم يعد لبنان "مستشفى الشرق"، بل أضحى موطن العلل الصحية. عدم الاكتراث يقتلنا. اليوم ببطء، غداً بصورة متسارعة. لم نعد نحبّ الحياة أكثر من سهرة واحدة أو نزهة واحدة. لا نريد التخطيط لأبعد من يومنا هذا، لكن هذا اليوم قد لا يكفينا غداً.
قبل أيام قليلة من بدء العام الدراسي، ومع انتظار تدفق التلاميذ على المدارس والجامعات، واقتراب موسم الشتاء، سنشهد "تطوراً" في أمراضٍ عدة. سينقل بعض التلاميذ من مدارسهم، أو ينقلون إليها، أمراضاً ما. لا ذنب لهؤلاء سوى أنهم في منظومةٍ دولتيةٍ لا تبالي بهم، وفي بلدٍ يُدعى لبنان.
أما المولجون على أمننا الصحي فلا يبالون بنا، عشنا أو متنا. سياسيون يسافرون أسبوعياً، منهم في رحلة صيدٍ، ومنهم في رحلة استجمامية يعيّرون بها "لبنان الجميل"، وكأنهم لم يشاركوا في تهديمه. يعتقد بعض السياسيين أن الدنيا تدور حولهم، رئاسياً وحكومياً، وبعضهم الآخر يطرد موظفيه تعسفاً من مؤسساته. رواتب النواب والوزراء، المتقاعدون منهم والحاليون، مؤمّنة من ضرائبنا. رئيس جمهورية سابق أُصيب بجرحٍ طفيفٍ في عينه، فغادر إلى الولايات المتحدة لمعالجتها.
هؤلاء جميعهم بماذا يبالون؟ بالحفاظ على مكتسباتهم باسم الطوائف. تحالفات بلدية بيروت الأخيرة نموذجاً. ينتظرون من شهر إلى آخر جلسة حوار أو جلسة لانتخاب رئيس جديد للبلاد، وكأن لا وضع صحياً يستلزم الاستنفار، ولا وضع اقتصادياً يحتاج المعالجة. أما الحكومة فلا تحتاج للاجتماع أكثر من مرة أسبوعياً، إذا اجتمعت. وفي حال التأم النصاب الوزاري، فإن أول ما تتم مناقشته هو "التعيينات"، أي توزيع الحصص بين بعضهم.
لو وقف أي مواطن لبناني برهة وسأل نفسه: لماذا كل هذه البطالة، والوضع الطبي المتردّي؟ لماذا عليّ تحمّل النفايات في عقر داري، والتلوث في الجو والبحر والبر؟ لماذا عليّ أن أحتفظ بدوري رقماً انتخابياً في عدّادهم الدائم، وأعلّق صورهم على جدران منزلي وفي سيارتي، إن امتلكت واحدة، وهم لا يعالجون أدنى ملف يخصّني، ويخصّ أولادي؟
لو سأل أي مواطن لبناني نفسه: ماذا جنيت من ولائي لتلك الطبقة السياسية، الموالاة منها والمعارضة، سوى مزيد من القهر والعذابات، باسم الطوائف وميثاقيتها أو ما شابه؟ هل يكفي أن يزورني نائبٌ أو وزير لتهنئتي بفرحٍ، أو تعزية بحزنٍ، لأكون مناصراً له، مع عائلتي، طوال حياتي؟
أكثرية اللبنانيين يفكرون في مساءاتهم، في كيفية إيفاء ديونهم غداً، فيما سياسيوهم أو قادتهم، لا يأبهون سوى بإذلالهم، وتحويلهم إلى عبيدٍ في صناديق اقتراع أو حروبٍ طوائفيةٍ وهمية. الموت البطيء يطبق علينا كنيرِ عبودية أبدي.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".