20 أكتوبر 2024
لبنان.. العدالة الدولية والجريمة السياسية
يعيش اللبنانيون، في هذه الأيام، تجربةً غريبة من نوعها، وتكاد تكون سوريالية بالمعنى الكامل للكلمة، ففي الوقت الذي تبث فيه قنوات محلية وقائع المداولات في المحكمة الجنائية الدولية بشأن اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، ويعرض الادّعاء قرائن مخيفة تجرّم خلايا حزبية، برئاسة مصطفى بدر الدين، المسؤول العسكري في حزب الله الذي اغتيل في ظروف غامضة في دمشق سنة 2016 خلال توليه مسؤولية قيادة مقاتلي الحزب في سورية دفاعاً عن نظام بشار الأسد، في هذا الوقت، يدور خلاف بين بلدية الغبيري في ضاحية بيروت الجنوبية ووزارة الداخلية، بشأن إطلاق اسم مصطفى بدر الدين على أحد شوارع البلدية، ذات الأكثرية السكانية الشيعية. بدر الدين، بحسب الادعاء في المحكمة الدولية، وفي نظر شريحة واسعة من اللبنانيين، متآمر في أكبر الجرائم السياسية التي شهدها لبنان، لكنه، بحسب بلدية الغبيري وحزب الله وجمهوره، بطل مقاوم وشهيد. يختصر هذا المشهد الشيزوفرينيا الجماعية التي يعانيها اللبنانيون.
لم يكن سهلاً قبول الفريق السياسي الموالي لسورية في لبنان، وفي مقدمتهم حزب الله، أن تتولى المحكمة الدولية التحقيق في اغتيال رفيق الحريري، وقد دفع بعضهم ثمناً باهظاً من حياته، لكونه صوّت في مجلس النواب اللبناني مع قرار المحكمة الدولية، مثل رئيس تحرير صحيفة النهار، جبران تويني، الذي اغتيل في ديسمبر/كانون الأول 2005. في تلك الفترة،
عاش لبنان على وقع التهويل اليومي والتشكيك في التحقيقات الدولية، وعلى اختراعات شهود الزور. ومع مرور الزمن والعمل الطويل الذي استغرقه عمل المحكمة الدولية، ودوّامة التغيرات المأساوية التي طرأت على دول المنطقة منذ ذلك الحين، بدا للأفرقاء اللبنانيين أن القبول بعمل المحكمة الدولية جزء من عملية الخروج من حدّة الاستقطاب الطائفي الشيعي - السني الذي وصل إلى ذروة خطيرة في أحداث 7 مايو/أيار 2008، في أعقاب عرض القوة الذي قام به مقاتلو حزب الله في العاصمة بيروت، وبعض المناطق الأخرى، والذي شكل درساً قاسياً واضحاً لجميع خصومه السياسيين.
اليوم، ومع وصول المحكمة إلى نهاية عملها، ومع تواصل المرافعات في ظل غياب المتهمين الأساسيين الذين تربطهم جميعهم صلة بحزب الله، وبعد تحذير الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، من "اللعب بالنار"، وقبل أن تصل المحكمة إلى قراراتها الأخيرة، هناك أكثر من سؤال: هل ستنكأ مداولات المحكمة من جديد الجراح العميقة التي خلّفها مقتل الحريري ورفاقه؟ وما تأثير ما يجري في لاهاي على الوضع السياسي المأزوم في لبنان، في ظل تعثّر تشكيل حكومة لبنانية، بعد مضيّ أربعة أشهر على تكليف سعد الحريري، نجل رفيق الحريري، بهذه المهمة؟ وأي درسٍ يمكن أن تقدمه هذه المحاكمة إلى مجتمعاتنا العربية، حيث الجريمة السياسية أسلوب معروف في تصفية الخلافات السياسية، وإلى أجهزة القضاء المحلية التي تعاني من تدخّل الطبقة السياسية فيها، ومن المحسوبية والفساد؟ والسؤال الأهم: هل يمكن أن تشكل محاكمة قتلة الحريري سابقةً تشجع آخرين على ملاحقة متهمين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟
على الرغم من ارتفاع وتيرة التوتر بين تيار المستقبل الذي يتزعمه رئيس الحكومة المكلف
وحزب الله، من الصعب أن تؤدّي مرافعات المحكمة إلى تأجيج الصراع من جديد، لا سيما بعد موقف الحريري المهادن والداعي إلى التعقل وعدم الانجرار وراء الاستفزاز، والتجاهل المتعمد من وسائل إعلام حزب الله، والجهات القريبة منه، مداولات المحكمة، في محاولة واضحة لتسخيف ما يجري، وإفراغه من محتواه. أما ردة فعل الجمهور اللبناني الواسع على مداولات المحكمة، فتتأرجح بين المتابعة عن كثب، مع شعور ضمني باستحالة التوصل إلى معاقبة القتلة، واللامبالاة وسط الهموم الكثيرة التي تثقل كاهل اللبنانيين في هذه الفترة. لقد تغيرت ردة الفعل الشعبية على اغتيال الحريري عمّا كانت عليه قبل 13 عاماً، والشعب اللبناني اليوم غارقٌ في مشكلات حياتية واقتصادية تهدّد استقراره.
من جهة أخرى، يمكن القول إن التعقيدات التي يواجهها سعد الحريري في تشكيل الحكومة ناجمة، بشكل أساسي، عن صراعات سياسية لبنانية داخلية على تقاسم الحصص، وعلى صراع على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئاسة الحكومة، أكثر مما هي ناجمة عن مرافعات المحكمة الدولية. يعاني لبنان من غياب راعٍ إقليمي أو دولي، يساعده في حل الأزمة الحكومية، ويدفع الأفرقاء اللبنانيين نحو تسوية مقبولة من الجميع. وبالتالي، لا يمكن تحميل المحكمة الدولية مسؤولية التأخير والمأزق الذي تواجهه عملية تشكيل الحكومة.
ما يجري في قاعة المحكمة الدولية في لاهاي إنجاز دولي ولبناني. وعلى الرغم من ذلك، ثمّة شكوك كبيرة في أن يؤول هذا الجهد إلى معاقبة الجناة أو من يقف وراءهم. ليس القصد من هذا التشكيك في العدالة الدولية نفسها، بل المقصود عدم وجود إجماع لبناني حول مفهوم العدالة والقصاص. ولأن المتهم الأساسي في هذه القضية هو الطرف الأقوى الذي يتحكّم في موازين الحرب والسلم في لبنان.
لم يكن سهلاً قبول الفريق السياسي الموالي لسورية في لبنان، وفي مقدمتهم حزب الله، أن تتولى المحكمة الدولية التحقيق في اغتيال رفيق الحريري، وقد دفع بعضهم ثمناً باهظاً من حياته، لكونه صوّت في مجلس النواب اللبناني مع قرار المحكمة الدولية، مثل رئيس تحرير صحيفة النهار، جبران تويني، الذي اغتيل في ديسمبر/كانون الأول 2005. في تلك الفترة،
اليوم، ومع وصول المحكمة إلى نهاية عملها، ومع تواصل المرافعات في ظل غياب المتهمين الأساسيين الذين تربطهم جميعهم صلة بحزب الله، وبعد تحذير الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، من "اللعب بالنار"، وقبل أن تصل المحكمة إلى قراراتها الأخيرة، هناك أكثر من سؤال: هل ستنكأ مداولات المحكمة من جديد الجراح العميقة التي خلّفها مقتل الحريري ورفاقه؟ وما تأثير ما يجري في لاهاي على الوضع السياسي المأزوم في لبنان، في ظل تعثّر تشكيل حكومة لبنانية، بعد مضيّ أربعة أشهر على تكليف سعد الحريري، نجل رفيق الحريري، بهذه المهمة؟ وأي درسٍ يمكن أن تقدمه هذه المحاكمة إلى مجتمعاتنا العربية، حيث الجريمة السياسية أسلوب معروف في تصفية الخلافات السياسية، وإلى أجهزة القضاء المحلية التي تعاني من تدخّل الطبقة السياسية فيها، ومن المحسوبية والفساد؟ والسؤال الأهم: هل يمكن أن تشكل محاكمة قتلة الحريري سابقةً تشجع آخرين على ملاحقة متهمين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟
على الرغم من ارتفاع وتيرة التوتر بين تيار المستقبل الذي يتزعمه رئيس الحكومة المكلف
من جهة أخرى، يمكن القول إن التعقيدات التي يواجهها سعد الحريري في تشكيل الحكومة ناجمة، بشكل أساسي، عن صراعات سياسية لبنانية داخلية على تقاسم الحصص، وعلى صراع على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئاسة الحكومة، أكثر مما هي ناجمة عن مرافعات المحكمة الدولية. يعاني لبنان من غياب راعٍ إقليمي أو دولي، يساعده في حل الأزمة الحكومية، ويدفع الأفرقاء اللبنانيين نحو تسوية مقبولة من الجميع. وبالتالي، لا يمكن تحميل المحكمة الدولية مسؤولية التأخير والمأزق الذي تواجهه عملية تشكيل الحكومة.
ما يجري في قاعة المحكمة الدولية في لاهاي إنجاز دولي ولبناني. وعلى الرغم من ذلك، ثمّة شكوك كبيرة في أن يؤول هذا الجهد إلى معاقبة الجناة أو من يقف وراءهم. ليس القصد من هذا التشكيك في العدالة الدولية نفسها، بل المقصود عدم وجود إجماع لبناني حول مفهوم العدالة والقصاص. ولأن المتهم الأساسي في هذه القضية هو الطرف الأقوى الذي يتحكّم في موازين الحرب والسلم في لبنان.
دلالات
مقالات أخرى
06 أكتوبر 2024
21 سبتمبر 2024
06 سبتمبر 2024