لأن النهرَ في حالةِ الزمن دائماً، قيل إنكَ لا يمكن أن تنزل النهرَ نفسه مرتين. ويمكن قول هذا عن اللغة، وبخاصة اللغة الشعرية، فهي في أصفى حالاتها لغة في حالة الزمن، لأنها لا تُنطق مرتين. فما قيل مرة بكلّيةِ الداخل وعمقه، لا يمكن قولَه مرة ثانية، لا يمكن تكراره، مع أن الكثيرين يحاولون إثبات العكس آخذين اللغة خارج نهر الزمن.
النهرُ الذي ننزله مرة يذهبُ ولا يعود أبداً، ومع ذلك تحتال اللغة عليه، وتبقيه كـ "مفهوم"، بينما الحقيقة أنه لا وجود لنهرٍ واحد، بل لهذه الكثرة السيالة بلا تحديد. وحين نحتفظ بمفهوم "النهر"، نحتفظ بشكل لغوي، أي بعادة لغوية، والشعرُ ليس عادة لغوية، وليس مفهوماً، بل مخاطرة دائمة للنزول في تيار الزمن؛ زمن الوجود كما نعيشه متغيِّرين ومغيِّرين.
إذاً، الشعرُ احتفاءٌ باللغة في حالة الزمن، أعني يوجد الشعر حيثما انغمرت اللغةُ في نهر الزمن، وهناك اللغة التي تتجنب الزمن، كمن يتجنب نزول النهر، أو يتوهم أنه ينزل النهر نفسه مرة بعد مرة.
وهنا الفرق؛ أمام بعض الشعر نحسّ أننا في حضرة لغة ممضوغة مئات المرات، وأمام بعضه أننا في حضرة لغة كأنها مناخٌ طالعٌ على وجه الأرض لأول مرة.