مع ازدياد حالة التضييق تجاه شريحة الشباب المصري، ولاسيما الجامعي، يفكر هؤلاء الشباب دوماً في الهجرة خارج البلاد بحثاً عن مناخ آمن لاستكمال دراستهم أو عملهم خارج مصر، بعد أن أصبحت سبل استئنافها داخل مصر أمراً مهدداً بالنسبة إليهم، ناهيك عن رداءة جودة التعليم بشتى مراحله.
ترى هذه الشريحة أن الدولة تعتمد على عواجيزها في صناعة القرار، وتحديد ورسم مستقبلها، وبشكل كبير زحزحت الشباب عن ذلك المركز في الوقت الذي كان يهيئ فيه الشباب أنفسهم لتسلم الراية، ولم تكتف الدولة بذلك، بل أدانتهم بتهم عديدة، وألقي بهم بين سجّان أهوج، وجدران زنزانة ظلماء.
وكما قال الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، في لقاء سابق له إنه لا يملك رفاهية الوقت لتجربة الشباب والاعتماد عليهم، وهذا ما يتضارب مع تصريحات سابقة له في فترة حملته الانتخابية، ويبدو أن "تمكين الشباب" في مصر لم يعد سوى شعار يتم المتاجرة به على إثر ما تبقى من ثورة 25 يناير.
وعلى الرغم من أن جيل الثورة هو جيل مقاوم عنيد يطمح إلى تحقيق المستحيل دوما، إلا أن شريحة من تلك الطبقة ارتأت أن وجودها في مصر في حد ذاته بات يمثل خطراً عليها، كما على مسار حياتها وطموحها المستقبلي، فالمستقبل أمامهم أصبح محفوفاً بالمخاطر، إذا ما تركز جهدهم على الترقي العلمي، والبحث عن مستوى للمعيشة يضمن لهم حياة كريمة، ومستقبلاً يستطيعون من خلاله تحقيق آمال كُسرت على حدود الوطن.
ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الشباب دوماً ما يبحثون عن أنفسهم بالمشاركة في أنشطة مختلفة تتعلق بالمشاركة في أنشطة العمل المدني، فهي متنفس لإشراك قدراتهم ومواهبهم مع أقرانهم، سواء من المصريين أو غيرهم، على صعيد المشاركة الشبابية في إطار التبادل الثقافي، إلا أن التضييق على دائرة العمل المدني والمجتمعي أصبح يشكل خطورة أيضاً، وقيداً مضافاً لما يعانيه الشباب المصري من قيود، جعلت الشباب يفكر أن كل أوجه الاستفادة العلمية أو الثقافية في مصر بات من الصعب ممارستها في الوقت الذي يكتفي بعضهم بوضع يده على خده في مراقبة بائسة لأقرانه من المرحلة العمرية ذاتها في تقدم علمي وعملي ومواصلة رحلتهم في أماكن أخرى، قريبة وبعيدة، بينما الشاب المصري ينتظر أن يتلقى ضربات مفاجئة جزاء على محاولاته في التغيير سواء على المستوى الشخصي، أو المجتمعي العام.
"أخلص دراستي وجواز سفري جاهز".. نظراً لكوني طالباً جامعيّاً أدرس في إحدى الجامعات المصرية، كثيراً ما أستمع إلى هذه الجملة الشهيرة، التي يرددها الكثير من زملائي الذين فاض بهم الكيل، ويئسوا من الاستمرار في التغلب على الصعوبات التي تواجههم مراراً وتكراراً، سواء أكانت بسبب التضييقات الأمنية أو الحالة النفسية التي نتجت عن كبت يواجههم، فهي صعوبات مادية ونفسية وعلمية، وصراعات تستهلك طاقتهم بلا نتيجة، بدلاً من تصويب ذلك الجهد في الاتجاه البناء.
يبحث هؤلاء الشباب دوماً، عن فرص لاستكمال تعليمهم خارج مصر، ولكن ليس فقط بغرض الحصول على فرصة تعليمية أفضل في إحدى الجامعات الأجنبية، ولكن نظراً لأن السواد الأعظم منهم يدور في مخيلته دائماً نظرة الدولة، وحاكمها تجاه الشباب وما فعلت بالشباب خلال المرحلة الحالية ويريد أن يلوذ بالفرار من ذلك السجن الكبير قبل أن يلقى مصرعه بين ظلمة جدرانه.
وليس معنى الهجرة أن ذلك الشباب باع قضيته، ولكن ما جرى كان الجولة الأولى، وللشباب جولة أخرى ولكن ليس الآن، فكل ما في الأمر أن الشباب لا يودون أن يرموا بأنفسهم الى التهلكة في توقيت لن تجني فيه أسرة المضرور إلا ضرره لا أكثر، ويقفون في صف لربما لن يكون طويلاً حتى يلقوا ما لقيه أصدقاؤهم من قبل، فإنهم لا يريدون أن يلحقوا بهم، فاستكمال رسالتهم هي استكمال رسالة أصدقائهم وأحلامهم التي حُرموا منها، بل وحرموا من الحق في الحياة من الأصل.. فيوما ما سيعودون.
في الواقع، يبدو أن هناك فئة حالها أشد وأسوأ، تلك الفئة لم تنتظر حتى تنتهي فترة البكالوريوس لتستكمل الدراسات العليا في الخارج، وتكمل ما بدأت به في مصر، تلك الفئة ضاق بها الحال وقطعت طريق دراستها لتبدأ حياة جامعية جديدة من نقطة البداية في دول خارج مصر، كان لنا لقاء مع أحد من مروا بتلك التجربة وهو أيمن عبدالمجيد.
يروي لنا "عبدالمجيد" تفاصيل تركه دراسته، في عامه الجامعي الثالث، ليخلف وراءه ثلاث سنوات، من دون أن يعبأ بها، في محاولة للبحث عن حياة جامعية أفضل في إحدى الجامعات الأجنبية.
وكأي طالب يهوى مجالاً فيلتحق به، بغض النظر عن مدى فاعلية هذا المجال في المجتمع المصري، فقد التحق "عبدالمجيد" بقسم علم الاجتماع في كلية الآداب، التي لم يجد لها مجالاً في مصر وكانت هنا إحدى نقاط بدايات تحول تفكيره نحو الخروج من مصر، وبدأ بعدها تعلم اللغة الألمانية، قبل التحاقه بجامعة خاصة في إسطنبول في تركيا، أثناء تواجده في مصر لرغبته في استكمال دراسته في جامعة برلين.
وبسؤالنا له عن مدى احتمال رجوعه إلى مصر، للوهلة الأولى تبادر إلى ذهن "عبدالمجيد" أساتذة الجامعات والعلماء وفئة كبيرة من المثقفين الذين إما يقضون شبابهم في سجون الدولة المصرية، أو ينهون حياواتهم في السجون ذاتها أيضاً، وذكر لنا أيمن العديد من التجارب ممن عادوا إلى مصر عقب الثورة لنشر تجاربهم في المجالات التي اكتسبوها، فمسألة عودته إلى مصر، وفيها هذا الاضطراب الكبير نظراً للتجارب السابقة والنتيجة التي وصل إليها أصحابها عقب عودتهم، وعدم اكتراث الدولة للأبحاث العلمية، إلا إذا كانت تخص شقّاً آخر وترمي إلى أهداف أخرى، ربما نعلمها جيداً.
وعلى شاكلة "أيمن" الكثير ممن فقد الثقة في الوضع المصري الحالي، بالأخص بعد ما شهدته الجامعات المصرية من أعمال عنف من الأمن والطلاب خلال العام السابق، الأمر الذي جعل حياة الطلاب معرضة للخطر بشكل كبير إذ أصبحت النظرة إلى الجامعات المصرية على أنها في مستوى متدن جدّاً سواء على الجانب العلمي أو الأمني.
ومما لاشك فيه أنه لا يخفى على القارئ العربي أن القبضة الأمنية من ناحية، وعدم الاحتواء والاهتمام بالكفاءات العلمية الشابة من ناحية أخرى كانت وسيلة شعر من خلالها الشباب أنهم غير مرغوب فيهم في بلدهم حاليّاً، الأمر الذي ارتأى فيه الشباب أنه لابد من التسلح بالعلم والفكر والمعرفة والعودة مجدداً إلى خوض معركة فكرية للتخلص من العقبات التي ذكرناها، حتى لا تعاني الأجيال القادمة مما يعاني منه جيلنا حاليّاً، وأن تصبح مصرنا منارة للعلم والتقدم تجذب الدارسين والمثقفين إليها وأن تصبح مثلاً يقتدى به بدلاً من العكس.
*مصر