لا أحد يهرب من الانحناء!

17 نوفمبر 2019
+ الخط -
منذ أدركت حواسي حقيقة الصلاة ولمس قلبي معنى الخشوع وأنا أدنو خطوة تلو الأخرى لأقترب من مسجد الجوار الذي أصرت هيئة الأوقاف على تسميته مسجد "عمر بن عبد العزيز"..

وفي هذا الحين لم أكن على دراية بهذا الاسم ولا أعرف مدى إصرار الأوقاف عليه بالتحديد، لعله كان اسماً لأحد الصحابة أو لأحد الصالحين، فأصبحت مواظباً دوماً على الصلوات اليومية، ولكن كانت صلاة الجمعة لها طابعها المميز على قلبي وأثرها الواضح في نفسي، وذلك لمواضيعها المختلفة التي تُثير تفكيري وتوحي لي بأسئلة عفوية تنمّ عن عمق سطحي أو فلسفات عميقة، لكنها كلها تجوال في خواطر صبي لم يبلغ سنه العاشرة بعد. المهم أن توجهات الخطبة وقتها كانت تشتمل على طاعة الله.

فالشيخ المنزلاوي أو كما اعتاد أهل الحي مناداته "الأزهري"، وذلك لكونه وحده خريج الأزهر في المنطقة، كان الأزهري الثلاثيني اليافع النافع بأمور دينه وإماماً لكل الصلوات التي تحدث في الجامع، سواء كانت فرضاً أو تهجداً أو حتى خوفاً من كسوف الشمس، ونشأت على لهجته الحنونه ونبرته الخافتة التي تعلو مباغتة لإيقاظ الكسالى ممن يحلو لهم أخذ سنة من النوم وقت خطبة الجمعة هاتفاً:

"صلّ على رسول الله"، وظلت الخطبة ثابتة المقدمة فدوماً يفتتحها قائلاً: "الحمد لله الذي حمد نفسه بنفسه عندما علم أن عباده سيعجزون عن حمده فبدأ مفتتحاً كتابه الكريم الحمد لله رب العالمين"، والخاتمة ثابتة أيضاً، تشمل دعاء لمصر وأهلها بأن يلهمهم الصبر والقدرة على الحياة، ولا أعلم مقصده، هل يلهم أهل مصر الصبر، أم يلهم مصر الصبر على أهلها، وأظنها ثابتة في كل شيء إلا في عنوان ما تحويه، حتى انفعالات الشيخ المنزلاوي كما كانت دوماً ثابتة.

تتابعت السنوات وتنافست في الرحيل، وخطبة كل موسم لا تتغيّر، فما يقال عن ليلة القدر هذه السنة هو ما قاله في السنوات الماضية وهو ما سيقال فيما هو آتٍ.

وكبرت أنا أيضاً مع الأيام وعرفت الرجل الذي تم نسب اسم المسجد إليه، وهو على حد علمي خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، الذي عرف بعدله، لكن الذي عرفته أيضاً أنهم وضعوا اسمه على المسجد ليس امتناناً لعدله، لكن ليوحي الموضوع خلسة إلى أيدٍ خفية كناية عن عدل رئيس مصر السابق "مبارك" وما كنا نعيشه من رخاء أو خراء على حسب الطبقة التي تقنط فيها.

وتجدد مؤخراً الخطاب الديني وتجدد معه كل شيء حتى الشيخ المنزلاوي الثابت تجدّد للأسوأ، وبعد توحيد الخطبة، فبعدما كان يتعب نفسه في حفظها لإلقائها على مسامع الحضور، أصبح لا يفعل شيئاً غير أن يمسك الورقة التي يوجد فيها الموضوع ويقرأه بفتور، كرسالة لست تعلم مرسلها، لكنا نعلم المرسل إليه، وبدون انفعالاته السابقة.

في مرة من المرات التي أراد أن يسمع للناس خطبته العصماء، وكان يتكلم عن دور المواطن المصري في الحفاظ على السياحة وجذب السياح. لست من هواة المفاجآت، لكن كنا في مدينة طنطا التي لا تعتبر من المناطق السياحية أصلاً، فهل مواطنوها هم الذين عليهم جذب السياح أم المدينة هي التي ستقوم بذلك الدور، ويبدو أن الأزهري نسي أنه ليس في ندوة عن السياحة وآثارها على الدخل القومي، بل في المسجد، لكنه أكمل خطبته، وأكمل الناس القهقهة والضحكات والابتسامات الباطنية، ثم ختم بدعائه الذي تغيّر مع الزمن "اللهم احفظ مصرنا واحمِ شرطتنا وانصر جيشنا وأقم الصلاة".

وفي الجمعة الأخيرة رأيت شيخاً آخر يصعد المنبر مفتتحاً الكلام، لكن الموضوع كان عن حكم طاعة الله والرسول وولي الأمر في الإسلام، ثم ختم بنفس دعاء الشيخ المنزلاوي، وبعدما انتهت الصلاة سألت عن أزهري الحي، فعرفت أنه قد توفي منذ وقت قريب.. رحل الشيخ المنزلاوي وبقي مسجدنا وبقي تجديد الخطاب الديني..
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.