شيخ الخائفين

13 ابريل 2020
+ الخط -
"دنيا فانية، تبرع ولو بجنيه، فالصدقة تطفئ غضب الرب".. قالها بنبرة توحي خلسة بأنه غاضب بوجه عابس مرسومة عليه كل علامات الريبة، صوته أجش ومع ذلك يزيده خشونة وهو يستدعي غلظته، حتى ظننت أن أحباله الصوتية تحجرت أو أوشكت على ذلك..

كما تعودنا طبعا.. ينادي في المصلين بعد كل صلاة ويدعوهم للتبرع والصدقة، يذكرهم بالآخرة وبأن "ماحدش واخد منها حاجة"، يستدعي في كل كلامه آيات العذاب والآخرة والنار والجحيم، حتى ظننت أن الناس كاد أن يغشى عليها من هول ما تسمعه من حروف ثقيلة. بعد كل صلاة يصلي فيها شيخنا بجانبي كان يدعوني للتصدق، ومن خوف الله والبعد عما حرمه الله، وإذا وقع كلامه بنفسي، أخرج ما في جيبي وأضعه بين يديه تقربًا لوجه الله. كان يفعل ذلك معي ومع الجميع بعد كل صلاة.

كعادة أهل مصر أو العرب أو المسلمين يزداد إقبالهم على المسجد في شهر رمضان، فمنهم الراكع والساجد ومنهم القارئ للقرآن، وكلما كثرت أعداد الناس بالمسجد داوم الشيخ مسعود على وجوده وظهوره بينهم، محاولا بأي طريقه أن يجذب الناس بدروسه النهارية أو خطبه المسائية..

بعد شهر رمضان، يؤذن للصلوات الخمس ويبدأ وصلة التوبيخ لكل من يقوم بفعل خاطئ غير مقصود. وأتذكر في يوم من تلك الأيام قبل وفاته، دخلت علينا صلاة المغرب ولم يكن بيننا شيخنا الإمام، لذلك قدمنا شابًا معروفًا بالصلاح ليقوم بدور المؤذن الغائب، لكن ما إن بلغ "حي على الصلاة"، حتى دخل الشيخ مسعود فجأة وهو يزمجر، ولولا حُرمة الجامع لسب جميع المِلل وهو ينهر الشاب ويزجره إلى الوراء ثم يكمل بدلًا منه الأذان، استنكرنا كلنا ما فعله الشيخ مسعود وما قام به، نعم؛ نحن لم نفاتحه ولم نتكلم معه بشأن ما فعله لكن القلب هو سيد الشهود وكفى به من ناكرٍ للأفعال.


في الصباح، انتشرت الأخبار عن ظهور بعض المصابين بفيروس ينتقل عن طريق اللمس أو التنفس، أصيب بعض الناس بالهلع، تمكن الخوف من قلوبهم وأحاط بقلب كل من في الحي غشاء الريبة والقلق، وخاصةً بعدما أذاعت وزارة الأوقاف قرارًا بغلق المساجد والاكتفاء بالأذان..

لكن، والحمد لله، حارتنا والحي الذي نسكن فيه خالٍ من أي وباء، نحن نمشي برضا الله وتوجيهات الشيخ مسعود، وما هدأ بال الشيخ حتى جمع الناس للصلاة بالمسجد رغم قرار غلقه وهو يردد "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، ثم يتبعها بـ"ما تموت عين وعليها دين"، ويتوج أقاويله بأن "اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"..

سلسلة من الكلمات وقعت على ناصية أهل الحي، فأذابت غشاء الخوف الذي حاوط القلوب فجعلت من كان ينكر أفعال الشيخ مسعود يصدقها ومن كان يكرهه وينفر منه أصبح يتبعه على مضض، صار كل شيء في الحارة على النقيض، ظل ذلك هو الحال السائد حتى ظهرت أولى حالات هذا الفيروس اللئيم في حارتنا.

توجس الجميع، الذعر يخيم على الحي، سحب ثقيلة متكاثفة فوق الرؤوس لا تتحرك، هالات الخوف تنسج الأكفان في عيون كل من تراه، شق الخوف طريقه لقلوب الجميع، هل الإنسان يحتوي على كل ذلك الضعف حتي صار شبح الموت يطارد الجميع، كابوس يعايشه اليقظان قبل النائم، هل هذا هو طبع الإنسان يظل يسخر ويقلل من المصائب والكوارث ما دامت بعيدة عنه وعن المقربين منه، فيظهر عنجهية الإنسان وعنفوانه، فما إن مست أحدًا من أقاربه أو ذويه، تماهت عنتريته وأصبح عاريا تماما أمام عيبه المستتر، إنه الضعف، فالإنسان ضعيف أكثر مما يرى وأكثر مما يتصوره إدراكه.

أوصدت البيوت أقفالها وأغلق الجميع النوافذ على من يأتي ويروح، حتى الشيخ مسعود الذي كان يدعو الناس للثبات ويصف إغلاق المساجد بأنه الكفر عيانًا بيانًا وكان ينادي "أن الموت على سجادة الصلاة أفضل من الموت كالحريم في الدار"، اختفى تمامًا عن الأنظار وصار حبيس الدار، التزمت جميع المساجد برفع الأذان إلا مسجد حارتنا، مسجد الفاروق، ظل بدون صلاة وبدون أذان، فقد تمكن الخوف من قلب الشيخ حتى لم يخرج ليرفع الأذان.

بدأ الناس يستنكرون غياب الشيخ وداعب الشك قلوبهم، فذهب البعض لزيارته فلم يرد، وتكرر الأمر كل يوم، حتى قرر بعض الشباب عصبةً أن يكسروا عليه الباب فوجدوه قد لاقى ربه، قتله الخوف من الكوارث، الخوف من قدر الله، كما كان يُشيع بين الناس، لكن إنه الخوف، إنه الموت.
دلالات
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.