لا أحد يشيخ على الحب
يبدو أنّ لا أحد يكبر على الحب. قالت لي صديقةٌ تصغرني بأكثر من خمسة عشر عاماً، في حديث بيننا عن الحب وأحواله. كان الحديث عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة أكثر مما هو عن الحب. في علاقةٍ كهذه، تبدو المرأة كما لو أنها تقع في الحب بآليةٍ مختلفةٍ عن آلية الرجل، تحب المرأة بكل ما فيها، بقلبها وعقلها وروحها وشغفها، يحب الرجل بجزءٍ منه فقط، توجّه المرأة طاقتها كلها نحو الحب، ونحو من تحب، يصبح الحب محور حياتها، لا جزءاً من الحياة، كما ينبغي له أن يكون. تتناسى كل ما يخص حياتها، وترمي عليه بثقلها كله، وتريد منه أن يكون الحامل الوحيد لكل طاقتها. غالبية النساء هكذا، على الأقل نساء الشرق، اللواتي لم يختبرْن الاستقلالية الاجتماعية والنفسية باكراً، لم يعرفن معنى أن تكون لحياتهن مناح مختلفة. تعيش الفتاة في كنف عائلتها وحمايتها، حتى تحب وتتزوج، وتنتقل إلى حماية رجلها. حتى لو لم تتزوّج، سيشكل الرجل الحبيب الحماية النفسية لها، أو هكذا تفترض، غير أن حياة الرجل، في مجتمعاتنا، أكثر امتلاء، ليس بالمعنى الروحي، بل بالمعنى المادي والعملي، السهولة التي يتيحها له الظرف الاجتماعي تجعل حياته أكثر استرخاءً من حياة المرأة، تجعله يفكر بالمرأة بوصفها جزءاً من حياته، لا حياته كلها. هذا ما ستراه المرأة عدم اهتمامٍ بها، أو عدم قدرةٍ على اللحاق بمشاعرها التي تُتقن القفز إلى مسافاتٍ بعيدةٍ في العلاقة، فتُصاب بالحزن والخيبة، ثم يبدأ التصعيد الدرامي لديها، لتصل إلى لحظة الذروة، الانفجار الذي قد يعني الفقد ومكابداته، أو تفريغ طاقة الحب الهائلة لديها في مكان آخر، بعيداً عن الرجل، المرأة التي تنجب أطفالاً يصبح أطفالها هم البدائل، تملأ ما تعتقد أنه فراغ عاطفي بهم، تتعلق بهم كما تعلقت برجلها سابقاً، تحمي انهياراتها النفسية بهم، تحاول أن تجعلهم مثلها، غير مستقلين نفسياً عنها، وحين يكبرون ويبدأون بالتململ والخروج عن خيمة محبتها الكبيرة، ستعود إليها حالة المكابدة نفسها. الفرق فقط هنا، أنها ستبدأ بالتدخل في خيارات حياتهم نوعاً من التعويض عن عجزها عن فعل ذلك مع رجلها.
معظمنا، نحن النساء، نتصرّف مع أولادنا بهذه الطريقة، خصوصاً مع بناتنا، كما لو كنا لا نريد لهن طريقاً أخرى مختلفةً عن طريقنا، كما لو كنا سنشعر بالغيرة إن نجحن في علاقاتهن العاطفية، كما لو كنا نرى فشلنا واضحاً في نجاحهن! معظمنا أيضاً نحن النساء، نتصرّف مع الرجال الذين نحبهم بالطريقة نفسها، نحاول الضغط عليهم عاطفياً ونفسياً، عبر تحميلهم كتلة مشاعرنا المتوهجة والحارقة. وحين يبدأون بالتململ، ننفجر في وجوههم، ونبرّر انفجارنا بشعور الغيرة الذي نقول عنه إنه صفة ملتصقة بالحب، لو فكّرنا قليلاً بالأمر وسألنا: هل فعلاً ما نشعر به هو الغيرة، أم هو انعدام الثقة بالنفس، يسببه شعورنا بالخيبة، أننا لا نرى رد الفعل الذي نردّه مقابل عواطفنا؟
شخصياً، وعلى الرغم من أنني طالما كنت من النوع الدرامي في علاقاتي العاطفية، أعتقد أننا نريد مقابلاً لعواطفنا، نريد ما يشبهها، ما لا يقل عنها. وبهذا، نحن ندفع علاقاتنا العاطفية نحو الهاوية، لا نترك لأنفسنا، ولمن معنا، فرصة الاسترخاء، والسير بالعلاقة في طريقها الهادئ الآمن. وفي المقابل، قلة هم الرجال الذين يفهمون طبيعة المرأة، ويمتصّون طاقتها العاطفية، بسلاسة ومرونة. غالبية الرجال يخافون من الوقوع بالحب، يعتبرونه ضعفاً لا يليق بهم، يخشون على صورتهم الاجتماعية من الاهتزاز. لهذا، يتذرّعون بالضغط العاطفي الذي تمارسه النساء عليهم، فيهربون خوفاً من فقدان توازن حياتهم. لا يدرك رجالٌ كثيرون أن الوقوع في الحب هو توازن الحياة عينه، ولا تدرك غالبية النساء أن الوقوع في الحب هو الاستقلالية الكاملة. لهذا يتخبطان في علاقاتهم العاطفية، من دون أن يدركا أنهما يخسران بذلك فرصةً ثمينةً للسكينة والإحساس بالأمان. قلت لصديقتي الشابة: أحياناً، أخجل من نفسي أنني ما زلت أحب، وأنا في الخمسين، كما لو كنت في العشرين، قالت لي بحكمة خمسينية: لا أحد يشيخ على الحب، يشيخ الناس، حين لا يحبون.