منطق العدل المفقود

04 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لم يسبق أن وصل العرب إلى هذا الدرك من الرضوخ والاستسلام، بل والعمالة، في العلاقة مع العدو الإسرائيلي وفي ردّات الفعل تجاه إجرامه الفائق عن الحدّ. لم يعد الأمر يقتصر على حرب غزّة، على ما فيها من فظاعة لم تتوقّف منذ عام، وحتّى الآن. فعلى ما يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وقف قبل أيّام في الأمم المتّحدة يبشّر بالقوة الإسرائيلية التي لن يقف شيء في طريقها بعد اليوم، كان ضامناً الصمت العربي على الجرائم التي سيرتكبها في اليوم ذاته؛ استباحة السماء اللبنانية وإطلاق صواريخ فراغية على حيٍّ سكنيٍّ فيه مبنىً تجتمع فيه قيادة حزب لبناني، من دون أيّ اكتراثٍ لمصير آلاف المدنيين ضحايا اعتداء كهذا، من قتلى وجرحى ومشرّدين.
مُرعبٌ المشهدُ بكلّ تفاصيله. ليس استهداف قيادة حزب الله، فتلك شروط الحرب، بل الوقاحة المهولة التي يتصرّف بها جيش الاحتلال في لبنان، عن مطالبات الجيش للمدنيين بالإخلاء قبل دقائقَ قليلةٍ من تنفيذ ضرباته الجوّية، عن استهداف شُقَق سكنية وسط عمارات مدنية بالكامل، عن مُسيَّراته التي لا تتوقّف ليلاً نهاراً في سماء بيروت وفي الجنوب اللبناني، عن دخول دبابته الحدود المُرسَّمة من هيئة الأمم المتّحدة في اجتياح جديد لهذا البلد المنكوب، عن استباحته السماء السورية لصيد أهداف تخصّه، من دون أدنى مراعاة لحجم الخسائر بين المدنيين. طبعاً الحديث عن الرعب الذي تسبّبه هذه الأحداث كلّها للمدنيين، وخصوصاً للأطفال، يصبح حديثاً بلا معنى، ذلك أنّنا نحن العرب وأطفالنا، متروكين لأقدار قاسيةٍ منذ زمن طويل، تفتك بنا أنواع القوى المحلّية والمستوردة كلّها.
حروب العرب السابقة كلّها كانت محمولةً على دول تحتفظ ببعض سيادتها وقوتها، دول المواجهة تحديداً، ورغم أنّ انتصاراتنا كانت شحيحةً، إلّا أنّ الهزيمةَ (مهما كانت كبيرة) كان يتبعها أملٌ بانتصار وشيك، فجيوشنا قوية وكلفة تسليحها عالية، وإن كانت للباطل جولةٌ فإنّ للحقّ جولاتٍ، وقضايانا مُحقّة تماماً بكل النواميس الأرضية والسماوية. لكن، فاتنا على ما يبدو أنّ حكامنا مُستبدّون، وأنّ الاستبداد ليستمر عليه أن يجعل شعبَه مستكيناً ويحوّل جيشه جيشاً لخدمته فقط، لا للدّفاع عن الأرض أو للوقوف في وجه العدو. لم تهتمّ حكومات الاستبداد العربية لا بالوعي الجمعي ولا بالتنمية ولا بالحقوق، تحوّلت الشعوب، مع الوقت ومع تكاثر الهزائم، شعوباً من دون تعريف وطني، من دون تلك الهُويَّة التي تربط بين مجموعات متنافرة، وباتت الجيوش العربية بأمرة الحكام، مهتمّةً بالقمع الداخلي، وبتسييد النُظم القائمة. وتكرَّس هذا الوضع بشكل شبه نهائي بعد 2011، وبعد هزيمة "الربيع العربي". نحن اليوم في مشهدٍ لدول المواجهة شديد البؤس؛ مجتمعات غارقة في الفقر والجهل وأزمات المعيشة والانقسامات المذهبية والطبقية المُريعة، وحكومات وأنظمة فاشلة باعت نفسها وبلادها وسيادتها وقراراتها لدول أخرى تمارس احتلالاتٍ حديثةٍ، اقتصاديةٍ وعسكريةٍ، ومهتمّةٍ بمصالحها، بعيداً عن الشعارات الأخلاقية التي يطلقها بعضها نوعاً من أنواع التقيّة. لماذا لا يستعرض مجرم حرب مثل نتنياهو إذاً فائض قوته، ويعلن أنّه سوف يصنع شرقاً أوسطاً جديداً؟ ... هو يدرك تماماً حجم دول المواجهة، مثلما يدرك أنّ كلّ الحكومات العربية الأخرى إمّا تتهافت للتطبيع معه، بحثاً عن دور في الشرق الأوسط الجديد، أو لم تعد معنيةً بقضايا العروبة. أمّا الشعوب فقد فُتك بها خلال العقد الماضي، قتلاً وتجويعاً وتشريداً وتفقيراً وتجهيلاً، يعنيها من القضية كلّها منطق الدين فقط، أمّا منطق الحقّ والعدل فلم يعد مهمّاً لها، ذلك أن حقوقها سُلِبت منها، ولم تنْصِفها أيُّ عدالة أرضية، دولية أو محلّية. ولولا قليل من الكلام العربي في وسائل التواصل الاجتماعي، لا نتيجةَ له غير التنفيس عن الغضب، لَبان وكأنّ فلسطين ولبنان في كوكب آخر لا يمت بصلة لهذا الكوكب العربي البهي.
تعجز الكتابةُ أحياناً عن وصف حالنا، ويعجز العقلُ عن الخوض في مواضيعَ خارجةٍ عمّا يحدث في بلادنا المنكوبة، ويعجز الخيال عن ابتكار فِكَرٍ مختلفةٍ تتعلّق بواقع حالنا، كما يعجز عن تحليل ما يجري من حولنا، ليس عن نقص، وإنّما عن استسلام وهزيمة نفسية انتكاسية لا أظنّ أنّ أحداً قادرٌ على النجاة منها وسط هذا الخراب كلّه.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.