ربما ساهم التباين اللافت للهجات اليمنية في خلق هذا التعدد، إلا أنه انعكاس لعوامل كثيرة؛ أهمها الواقع السياسي، فلم يتشكّل مركز سياسي ومدني مستقر لفترة طويلة يدوم فيه نشاط فني، وتسود ذائقة معينة فيه. كما أن عوامل الركود دائماً ما تفرض نفسها على أي ازدهار؛ فيكون الغناء، بوصفه تعبيراً عن امتياز طبقة بعينها، عُرضة لنزعات انتقامية ترتدي مضامين سياسية أو دينية، وربما مناطقية أو قبلية. ولكل منطقة يمنية أنماط غنائية تتمتع بخصوصية واختلاف عن بعضها البعض في أشكالها اللحنية، بصرف النظر عن بساطتها أو رتابتها.
يُعتبر الغناء الصنعاني أقدم لون غنائي يمني معروف اليوم. يُرجع الباحثون أقدم أغنية صنعانية معروفة الآن إلى قبل أربعة قرون تقريباً، وهي "أنا يا أبو يا أنا". إلا أنه من الصعب اعتماد الأغنية بثيمتها اللحنية الحالية، فربما ردد المزارعون "أنا يا أبو يا أنا" بألحان مختلفة، وتعرضت على مدى قرون للتحوير، إلى أن وصلت إلينا بشكلها الحالي.
ارتبط الغناء الصنعاني بمحاولات تحديث محدودة، ليظل محافظاً على شخصيته كما كان منذ ثلاثة قرون، أو على الأقل خلال آخر قرنين. فرضت التضاريس المعقدة عزلة على صنعاء، وحالت دون دخول عناصر لحنية من الخارج. عكس الغناء الذي نشأ في مراكز قريبة من البحر، مثل حضرموت وعدن ولحج. كما أن الأغنية الصنعانية تحتفظ بأشكال مقامية مختلفة عن غيرها، تعتمد على "الربع التون".
وعندما أراد الفنان علي الآنسي تطوير الأغنية في صنعاء، وظّف في أغنية "ممشوق القوام" ما سمعه من مارشات عسكرية تركية، وتضمن اللحن السلم الخماسي بطريقة مبتكرة. أراد الآنسي التأكيد على ضرورة تطوير الغناء وانفتاحه، وكان حافز ثورة 26 سبتمبر في 1962، دافعاً للخروج عن انغلاق العهد الإمامي. لكن لم تسمح العصبيات والتقاليد المرسّخة باستمرار تلك الروح الثورية، فانعكس على الغناء بالركود.
لطالما كانت زبيد مركزاً لازدهار الغناء في القرون الوسطى، وتحديداً في بلاط الدولة النجاحية. وآل نجاح أتوا من الحبشة وساروا على نهج أسلافهم الزياديين في رعاية الغناء. ومع انهيار النجاحيين، اندثر هذا الازدهار الغنائي، وربما ارتحلت بعض عناصره وتشتتت.
وعندما تعرّض الغناء في صنعاء إلى تحريم الأئمة، هرب كثير من العاملين فيه نحو الجنوب أو خارج اليمن. والأرجح أن بلاط سلاطين لحج العبادلة شكل ملاذاً لهذا الغناء، خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، قبل أن تتحول لحج إلى مركز غنائي بفضل أحد أمرائها، بعد أن كان موروثها مجموعة أهازيج وأغانٍ ذات ألحان بسيطة.
تعود جذور السلاطين العبادلة إلى منطقة أرحب شمال صنعاء، وقدموا إلى لحج ضمن جيش الإمام المتوكل على الله القاسم في أواخر القرن الثامن عشر، ومع تفكك المملكة القاسمية نتيجة الانقسامات، استقلوا بحكم لحج وعدن.
يدين تطور الغناء اللحجي للأمير أحمد بن فضل العبدلي، (شهرته القومندان)، وقد جسّد حالة لاحقة للاستقلال السياسي، من خلال بعثه الغناء اللحجي أوائل القرن العشرين. ففي إحدى أغانيه، يشير إلى التخلي عن الغناء الصنعاني، وهي عملية ربما قصد منها نزع البلاط عن هيمنة هذا الغناء، وربما الاعتزاز بهويته.
ساعد ظهور الأسطوانات في عدن القومندان، بأن يتعرف إلى عناصر لحنية من الخارج، إضافة إلى إمكانياته كأمير بالحصول على أسطوانات من الهند ومصر. واستطاع بموهبته هضم تلك العناصر في غناء لحجي يتمتع بخصوصيته. بعد رحيل القومندان عام 1941، ظهرت ألحان جديدة، إلا أن الغناء اللحجي لم يشهد نقلة مهمة، ثم لحقته أعراض الركود ليكتفي بتراثه من الألحان القديمة.
تعتبر أغنية "يا ورد يا كاذي"، من مقام البيات، واحدة من أشهر ألحان القومندان، وأصبحت وصلة دائمة في الأعراس اليمنية. ما جعل هذا اللحن فريداً، هو رغبة القومندان في محاكاة ألحان الرومبا التي استمع إليها. فالقومندان وعد القريبين منه بأنه سيقدم لهم أغنية "رومبا"، واعتكف خلال شهر رمضان؛ فكانت أغنية "يا ورد يا كاذي" بلحنها الراقص المليء بالحيوية والفرائحية.
يمر اللحن بتدرج في المساحة النغمية، بدءاً من اللازمة الصغيرة، ويبدأ الغناء "يا ورد يا كاذي" حيث تتكرّر نغمة الري بصورة متعاقبة، مع الامتداد الصوتي في "يا كاذي". وتتسع المساحة النغمية مع ظهور التكرار، لكن على نغمة الصول في "يا قمري الوادي". هنا، تظهر جُرأة القومندان اللحنية؛ حيث يقفز من الدو إلى الفا، وهو أمر لم يكن مسبوقاً في الغناء اليمني، إذ يعتمد اللحن الشرقي على التدرج في التنقلات النغمية.
المعروف أن عبد الوهاب قدم في أغنية "جفنه علم الغزل" أول إيقاع رومبا بداية الأربعينيات. أما القومندان فاختلفت نظرته، إذ أراد محاكاة ألحان الرومبا بثيماتها التي تمنحه تلك الروح الراقصة، بصرف النظر عن الإيقاع. فالرومبا، كإيقاع، سيدخل الأغنية اللحجية لاحقاً. كما أن القومندان اعتمد على إيقاعات محلية للأغنية، الزفة والمرؤوس. واستخلص من الثيمة اللحنية أول رومبا على الطريقة اليمنية، بل ربما أول رومبا عربية، لتأتي بروح محلية خالصة.
خلال القرن العشرين، احتضنت عدن كل أشكال الغناء اليمني، وفيها ظهرت أول تسجيلات للغناء الصنعاني، وكل أشكال الغناء، بما فيها أغاني اليهود اليمنيين. وساهمت شركات إنتاج الأسطوانات في ازدهار النشاط الفني. ويمكن اعتبارها أول ظاهرة غناء برجوازي في اليمن. وبعد الاستقلال، غادرت شركات الإنتاج، ما أن تم الإعلان عن توجه اشتراكي، ليصبح الغناء مسؤولية الدولة، وتحت رعايتها.
تشكّلت ملامح الغناء العدني في القرن العشرين، كنتيجة لالتقاء عناصر متعددة من الغناء اليمني، ومع أن غالبية سكان عدن قبل الاستقلال كانوا من الهنود، إلا أن تطور الأغنية العدنية تأثر بالألحان المصرية. وهو ما سيظهر بصورة خاصة في أغاني أحمد قاسم. حاول أحمد قاسم، الحاصل على تعليم أكاديمي في الموسيقى، تطوير البنية اللحنية، واهتم باللازمة الموسيقية، إضافة إلى تنويع اللحن والانتقال المقامي في بعض الألحان، إضافة إلى إدخاله إيقاعات غربية مثل الفالس. مع هذا، يمكن النظر إلى ألحانه، مثل "اشتقتلك" و"صدفة التقينا" وغيرهما، كمحاولة مبكرة لإخراج الغناء اليمني من محليته إلى العالم العربي. لكنه بدا أقل واقعية من معاصره محمد سعد عبد الله، علماً أن الاثنين من أهم رموز التلحين والغناء في اليمن.
لم يقتصر تأثير الغناء المصري على الغناء العدني في بعض التوجهات اللحنية، بل إنه تمت استعارة مفردات مصرية لبعض الأغاني، مثل "يا دوب"، كما في أغنية الفنان الراحل أبو بكر سالم العدنية: "يا دوب مرت عليا أربعة وعشرين ساعة". وكانت عدن المحطة الأولى لـ أبو بكر، قبل أن ينتقل ويحمل معه الغناء الحضرمي واليمني إلى المهجر.
في الغناء الحضرمي، ظهرت تأثيرات الموسيقى الهندية بصورة واضحة، من خلال محمد جمعة خان، وهو حضرمي من جذور هندية، استقدم سلاطين المكلا أباه من البنجاب في الهند ليعمل ضمن الفرقة الموسيقية العسكرية. يعتبر الدان قالباً غنائياً عريقاً، إلا أن الفضل يعود إلى خان في تطوير الأغنية الحضرمية، حتى أنه سيقوم بنقل ألحان من الهند أيضاً. كما أنه أدخل مقام الكرد الذي لم يكن وقتها معروفاً في الغناء اليمني.
كانت ثمانينيات القرن الماضي مرحلة الجمود، ولم تكن الأغنية اليمنية تواكب العصر وتغيراته. كما أن جيلاً بأكمله ذابت موهبته، ليحتضر الغناء في صورة الدولة الموحدة. وانتقلت محاولات تطوير الغناء اليمني إلى المهجر. اتفق أبو بكر سالم وأحمد فتحي على تطوير الغناء اليمني؛ الأول بصوته والآخر بموهبته اللحنية، وهي تجربة أعاد من خلالها أبو بكر تقديم أغانٍ صنعانية من التراث بشكل مُجدد.
في أغنية "يا ظبي صنعاء"، التي لحنها أحمد فتحي لـ أبو بكر، يعتمد على أغنية قديمة بالعنوان نفسه، وإن اختلفت كلماتها، ومُسجلة بصوت إبراهيم الماس، وهو فنان عدني هاجر أبوه نهاية القرن التاسع عشر من منطقة كوكبان، شمال غرب صنعاء، واستقر في عدن. ربما يعود اللحن لأغنية صنعانية لم يعد لها أثر في صنعاء. احتفظت بها أسرة الماس التي عملت في الغناء قبل هروبها من تنكيل الإمام. يستخدم فتحي الثيمة اللحنية نفسها، إلا أنه يمنحها شكلاً حديثاً، كما يغير المقام من البيات إلى النهاوند، موظفاً لازمة موسيقية، كما ينوع في ألحان الكوبليهات. ويرى فتحي أنه قام بما فعله بليغ حمدي من خلال التنقيب في الفولكلور وتطوير ثيماته اللحنية. وسرعان ما انهار هذا الاتفاق بعد تجربة قصيرة. أليست، هذه أيضاً، تجليّات صورة ليمن قلما يتفق أبناؤه؟