14 نوفمبر 2024
لاجئ فلسطيني في مخيم سوري
لم أستطع أن أحدّق في عينيْ أحمد، الطفل السوري "المهاجر" من الشام، أكثر من ثوانٍ معدودة، حين شعرت أنني على حافة انفجار كوني في رأسي، فانتحيت ركناً قصياً، ململماً تلك الدموع التي حرقت قلبي قبل خدّي، بعيداً عن عيون الوفد الصحافي العربي الذي لن يعرف سر هذا البكاء المفاجئ، من دون أن أشرح له خلفياته.
كنت أصلاً أشعر بالتعب، والهم أيضاً. التعب، لأنني استيقظت فجر ذلك اليوم مبكراً، لأعد نفسي للسفر من أنقرة في شمال تركيا، إلى أقصى الجنوب الشرقي التركي، إلى غازي عنتاب، لزيارة مخيمات اللاجئين السوريين التي يحلو للمسؤولين الأتراك تسميتها "مراكز إيواء" لضيوف، لا لاجئين، وفق صيغة "المهاجرين والأنصار". هذا عن التعب، وهو متراكم نتيجة يومين شاقين من اللقاءات المكثفة جداً مع مسؤولين أتراك في المؤسسات الخاصة بإيواء اللاجئين، والتعامل مع الكوارث، حيث تعد أنقرة، بشكل حثيث، لعقد أول قمة إنسانية دولية في إسطنبول، في الأسبوع الأخير من الشهر المقبل. أما الهم، فله شأن آخر، فقد كنتُ على موعد خاص جدا، للقاءٍ لم يسبق أن عشت مثله، فأنا الأردني الوحيد في الوفد الصحافي العربي الذي ضم صحافيين من لبنان وقطر والجزائر وتونس وعُمان والمغرب والعراق والكويت. ولم يكن بين هؤلاء الزملاء من عاش تجربة مماثلة للتي عاشها من نقصد زيارتهم، إلا أنا، ولم يكن أحد منهم، أو من المسؤولين الكثر الذين قابلناهم، أو استقبلونا في المخيم، من يعرف أنني ولدت في خيمة، كالتي يعيش في مثلها آلاف من أبناء سورية، على بعد ثلاثة كيلومترات من أرض وطنهم، وعلى ضفاف نهر الفرات.
وجهاً لوجه، وجدت نفسي في لقاء مشحون بالتوتر، معي، مستحضراً ذلك الفتى الذي مضت على مولده خمسة عقود ونيف، في مخيم فلسطيني أقيم على أراضي وطنه، ورأيت في عينيْ الفتى الشامي صورتي نفسها، بكامل نصابها، حينما كانت الوفود "الأجنبية" تأتي إلى مخيم طولكرم، لتطلع على "أحوال اللاجئين!"، وتبدأ بالتقاط الصور "التذكارية" مع منشآت المخيم:
المراحيض المشتركة، الحنفيات الخاصة بكل حارة لاستقاء الماء، مشغل الخياطة، وعيادة المرضى، والنساء اللواتي يحتضن أطفالهم انتظاراً للكشف الطبي، والأولاد الذين يلعبون بكرة القماش في الحارة. الفرق بين المخيمين جهة الإشراف، هنا تشرف على المخيم جهة تركية، تجتهد في توفير كل ما تستطيع من شروط الحياة الكريمة لـ "نزلاء" مركز الإيواء. أما في الحالة الفلسطينية، فكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" الجهة المشرفة، ولم تكن في مثل حرص الجهة التركية التي تتعامل مع اللاجئين السوريين باعتبارهم ضيوفاً مكرمين معزّزين، على الرغم من أن أي ظرف يمكن أن توفره للاجئ، أي لاجئ/ خارج بيته، لا يمكن أن يساوي مستوى حياته في بيته، ووسط أهله. ولهذا، ليس غريبا أن تستمع لشكاوى متعددة من "الضيوف" السوريين الذين صرفت على راحتهم الحكومة التركية ما يزيد على عشرة مليارات دولار، منذ انفجار الثورة السورية.
في لحظات قليلة، حين التقت عيناي بعيني الطفل الشامي محمد، استحضرت آلاف المشاهد المريعة، لحياة المخيم، وإعادة إنتاج النكبة الفلسطينية، بنسختها السورية. وتداعت، في مخيلتي، صورة الطفل الفلسطيني، الأردني، الواقع تحت احتلال صهيوني، ممزّق الهوى والفؤاد، بين فلسطينيته وأردنيته، ومحاولة "أسرلته" بعد حرب "الأيام الستة". وها هو اليوم، يقف على أرضٍ تركية، تضم آلافاً من اللاجئين السوريين. كانت خلطة عجائبية أفقدتني التوازن، فلم تستطع قدماي أن تحملاني، فاختصرت المعاناة، ولم أكمل التفرّس في وجوه اللاجئين الذين تجمعوا حولنا، وتمنيت، من أعماق نفسي، لو أنني لم أطأ أرض مخيم "نزيب 2"، ولم أنظر في وجوه اللاجئين المنكسرة، ولم أعِد "تمثيل" جريمة النكبة التي كنت فيها الضحية، فلا نكبتي وجدت نهاية لها، ولا هذه النكبة الجديدة تحمل ملامح خلاص قريب.
كم كان صعباً علي أن أعيش حالة اللجوء مرتين. الأولى، وأنا أعدو طفلاً بحذاء بلاستيكي بين الخيام، باحثاً عن وطن يرتسم دموعاً في عيون تائهة. والثانية، وأنا أعيد قراءة تيهٍ آخر، في عيون كسرتها مذلّة اللجوء، حتى ولو كانت في أحضان مضيفٍ كريم، فاللجوء هو اللجوء، حتى ولو كان إلى جنة، فما بالك حينما يكون إلى خيمةٍ أو "كونتينر" أو حاوية تحوّلت بقدرة قادر إلى "شقة" بغرفتين وملحقاتهما؟
كنت أصلاً أشعر بالتعب، والهم أيضاً. التعب، لأنني استيقظت فجر ذلك اليوم مبكراً، لأعد نفسي للسفر من أنقرة في شمال تركيا، إلى أقصى الجنوب الشرقي التركي، إلى غازي عنتاب، لزيارة مخيمات اللاجئين السوريين التي يحلو للمسؤولين الأتراك تسميتها "مراكز إيواء" لضيوف، لا لاجئين، وفق صيغة "المهاجرين والأنصار". هذا عن التعب، وهو متراكم نتيجة يومين شاقين من اللقاءات المكثفة جداً مع مسؤولين أتراك في المؤسسات الخاصة بإيواء اللاجئين، والتعامل مع الكوارث، حيث تعد أنقرة، بشكل حثيث، لعقد أول قمة إنسانية دولية في إسطنبول، في الأسبوع الأخير من الشهر المقبل. أما الهم، فله شأن آخر، فقد كنتُ على موعد خاص جدا، للقاءٍ لم يسبق أن عشت مثله، فأنا الأردني الوحيد في الوفد الصحافي العربي الذي ضم صحافيين من لبنان وقطر والجزائر وتونس وعُمان والمغرب والعراق والكويت. ولم يكن بين هؤلاء الزملاء من عاش تجربة مماثلة للتي عاشها من نقصد زيارتهم، إلا أنا، ولم يكن أحد منهم، أو من المسؤولين الكثر الذين قابلناهم، أو استقبلونا في المخيم، من يعرف أنني ولدت في خيمة، كالتي يعيش في مثلها آلاف من أبناء سورية، على بعد ثلاثة كيلومترات من أرض وطنهم، وعلى ضفاف نهر الفرات.
وجهاً لوجه، وجدت نفسي في لقاء مشحون بالتوتر، معي، مستحضراً ذلك الفتى الذي مضت على مولده خمسة عقود ونيف، في مخيم فلسطيني أقيم على أراضي وطنه، ورأيت في عينيْ الفتى الشامي صورتي نفسها، بكامل نصابها، حينما كانت الوفود "الأجنبية" تأتي إلى مخيم طولكرم، لتطلع على "أحوال اللاجئين!"، وتبدأ بالتقاط الصور "التذكارية" مع منشآت المخيم:
في لحظات قليلة، حين التقت عيناي بعيني الطفل الشامي محمد، استحضرت آلاف المشاهد المريعة، لحياة المخيم، وإعادة إنتاج النكبة الفلسطينية، بنسختها السورية. وتداعت، في مخيلتي، صورة الطفل الفلسطيني، الأردني، الواقع تحت احتلال صهيوني، ممزّق الهوى والفؤاد، بين فلسطينيته وأردنيته، ومحاولة "أسرلته" بعد حرب "الأيام الستة". وها هو اليوم، يقف على أرضٍ تركية، تضم آلافاً من اللاجئين السوريين. كانت خلطة عجائبية أفقدتني التوازن، فلم تستطع قدماي أن تحملاني، فاختصرت المعاناة، ولم أكمل التفرّس في وجوه اللاجئين الذين تجمعوا حولنا، وتمنيت، من أعماق نفسي، لو أنني لم أطأ أرض مخيم "نزيب 2"، ولم أنظر في وجوه اللاجئين المنكسرة، ولم أعِد "تمثيل" جريمة النكبة التي كنت فيها الضحية، فلا نكبتي وجدت نهاية لها، ولا هذه النكبة الجديدة تحمل ملامح خلاص قريب.
كم كان صعباً علي أن أعيش حالة اللجوء مرتين. الأولى، وأنا أعدو طفلاً بحذاء بلاستيكي بين الخيام، باحثاً عن وطن يرتسم دموعاً في عيون تائهة. والثانية، وأنا أعيد قراءة تيهٍ آخر، في عيون كسرتها مذلّة اللجوء، حتى ولو كانت في أحضان مضيفٍ كريم، فاللجوء هو اللجوء، حتى ولو كان إلى جنة، فما بالك حينما يكون إلى خيمةٍ أو "كونتينر" أو حاوية تحوّلت بقدرة قادر إلى "شقة" بغرفتين وملحقاتهما؟