10 نوفمبر 2024
كيف يتكيّف التسلط؟
في ندوةٍ علميةٍ شاركت فيها، طُلب مني التطرّق إلى موضوع "تكيّف النظم التسلطية". وقد فوجئت بدايةَ بهذا الطلب، لتركيزي الدائم على محاولة فهم كيف تتكيّف المجتمعات المدنية مع السلطات المستبدة في ماضي المنطقة العربية وحاضرها، وربما في مستقبلها.
بدأ الحديث عن مسألة التكيّف من خلال دراسة الجسم البشري، وكيفية تكيّفه مع التحولات المناخية والغذائية. كما استخدم كثيراً في العلوم النفسية للتطرّق إلى تكيّف الإنسان مع حالة مستجدّة. ويمكن تعريف التكيف بالقدرة على تجاوز صدماتٍ متعدّدة ومختلفة، مثل موت قريب أو سوء المعاملة أو العنف الجنسي أو الحروب ... إلخ. والكلمة بحد ذاتها ذات مصدر فيزيائي، إذ تشير إلى استطاعة جسم لمقاومة صدمة. وإن جرت الاستعانة به في مجال العلوم الاجتماعية، فيجمع عدد من المتخصصين على إمكانية أن نجد له تعريفاً يُشير إلى القدرة على النجاح في العيش والنمو بطريقة إيجابية، ومقبولة اجتماعياً، على الرغم من الضغط العصبي والتوتر النفسي، أو على الرغم من عدائيةٍ تحمل في جنباتها، بشكل طبيعي، احتمالات خطر الوصول إلى نتائج سلبية. ويمكن اعتبار نجاح هذا التعريف مرتبطاً بما يحمله من رسائل الأمل، أو التماسك الذاتي أمام الصعوبات، فالتعاسة والإحباط ليسا مصيراً محتوماً.
سياسياً، برز المفهوم عند الحديث عن نوع من مقاومة المجتمعات التسلطية والقمع والمآسي
الطبيعية والمفتعلة. وبالتالي، تمكن الإشارة إلى تكيّف أهالي سان بطرسبورغ مع الحصار النازي إبّان الحرب العالمية الثانية. كما يمكن التطرّق إلى تكيّف سود جنوب إفريقيا مع ممارسات نظام الفصل العنصري. أو كيف يتكيّف الفلسطينيون مع سياسات الاحتلال الإسرائيلي بكل حمولاتها المأساوية. وفي حالات أخرى، استُخدِمَ المفهوم للإشارة إلى تكيّف المجتمعات المدنية أو الأهلية العربية، كما المجموعات السياسية المعارضة، مع عسف السلطة وتغوّل السلطان.
أما وأن المطلوب هو التحدّث عن تكيّف التسلط مع التغيرات، فالتحدّي صعبٌ وممتع. وتاريخ المنطقة العربية الحديث غنيٌ بالشواهد والأمثلة. لقد فشلت أغلب الدول في بناء الدولة / الأمة، إثر خروجها من الاحتلالات الأجنبية، وإثر نجاحها في اطلاق حركات تحرّر وطنية "تكيّفت" مع مستلزمات النضال وصعوبات المواجهة وتحديات التحالفات الدولية والإقليمية التي واجهتها. وللاستعاضة عن هذا الفشل الذريع، والذي ربما تميّزت به هذه المنطقة الجغرافية من العالم عمّا ماثلها من أممٍ تحرّرت من الاستعمار، فقد طوّرت أنظمتها أساليب استبدادية قابلة للتجدّد وللتكيّف مع مختلف الظروف المحلية والإقليمية والدولية. ولقد استنبطت لأجل تحقيق هذا الهدف ما تسمى الدولة الأمنوقراطية، ففيها يتجاوز مدى العقلية الأمنية وسطوتها وتأثيرها، كما أجهزة هذه العقلية، كل ما تم التعارف عليه من حكومات عسكرية، أو ما تسمى جمهوريات الموز، أو حتى النظم البوليسية، فالمفهوم الأمنوقراطي يُحيل كل أجهزة الدولة، كما مؤسساتها، إلى بيروقراطية أمنية. كما أنه يُسخّر الحزب الحاكم بجماهيره، إن وجدت، وبأدواته، لتكون وسيلة تعزيز لتغوّله الأمني وإرهابه الممأسس. كما أن الجيش، يكون أيضاً من ضحايا الدولة الأمنوقراطية، إذ يجري العمل على إضعافه، لمنعه من السعي إلى قلب نظام الحكم. كما يتم تسليط صغار الأمنيين، ليكونوا أسياداً على كبار العسكريين. ومن جهة القضاء، يتحول القضاة إلى أدواتٍ من السهل رميها أو تحطيمها لدى هذا الجهاز الأمني أو ذاك.
ومن الضروري الإشارة إلى تعدّد الأجهزة الأمنية وتوازيها من دون تشبيك أو تنسيق، إلا فيما ندر. وهي مثاليةٌ في خضوعها إلى رأس السلطة، دونما محاسبة مسلكية أو مالية أو مساءلة حول عملياتها التي غالباً ما تمسّ الشعب المحلي، بحجة التصدّي للعدو الخارجي.
وفي أكثر الأمثلة تعبيراً هو ما أوردته الأقاصيص عن دولةٍ عربيةٍ عميقة الخبرة في الأمنوقراطية المستفحلة، حيث تم التوجه إلى عنصر صغير من جهاز أمني ما، برجاء الخروج
من مكان تلقى فيه محاضرة لعدم إحراج قائد جهاز أمني آخر كان موجوداً في المكان، فما كان من العنصر الصغير إلا أن أجاب، وبثقةٍ لا مثيل لها، أنه يهزأ بهذا القائد وبرئيس الجمهورية نفسه، وهو المتغوّل الأكبر، لأنه "إلهه" هو "معلمه" المباشر. أي أنه أثبت كيف تتكيّف الأجهزة الأمنية مع التعدّدية الأمنية، وكيف تكون الفوضى المنظمة لدى الحكومات التسلطية، فهذا العنصر العادي لن يمتثل لأوامر ضابط كبير في جهاز مختلفٍ عن جهازه. وهو حتى لن يمتثل لرئيس جمهورية هذا الجهاز أو البلد إن بقي له معنى كبلد. وسيكون قائد الجهاز المُهان، كما رئيس الجمهورية المُستَصغَر، سعيدين للغاية، حالما يعلمان بجواب هذا العنصر: فالأمن لا يمكن أن يخضع لتراتبيةٍ عادية تقليدية، إنه يخضع للرئيس المباشر، والذي ربما يكون أعلى بدرجةٍ من العنصر "التافه".
وفي السياسات الخارجية، تتعدّد الأمثلة على تكيّف الدول التسلطية لتفادي المواجهات التي يمكن أن تؤدي إلى زوال الحكم، لا سمح الله. فهي تغيّر التحالفات بسرعةٍ لافتة، ولا تجد أنها مجبرة بتبرير هذا التحول. كما أنها تُسارع إلى تقديم الخدمات الأمنية والعصاباتية والاحتلالية لتلك القوة الإقليمية أو لتلك القوة الدولية. وهي تستشرف المستقبل، بحيث تُهيئ للأزمات الداخلية بتصعيد المواجهات الخارجية، أو تتمكّن من تحويل الاحتجاجات الشعبية إلى مواجهاتٍ مسلحة، سرعان ما تعطيها "الحق" و"الشرعية" بقمعها دموياً.
يتكيّف التسلط عربياً مع مختلف التغيّرات الإقليمية والدولية، وحتى المناخية. إنه يعيد إنتاج نفسه. وإن تحدّث عن إصلاح وتطوير وتحديث، فما هو إلا إصلاح لاختلافاتٍ في الرؤى حول نجاعة هذا التسلط أو ذاك. وما هو إلا تطوير لأدوات التسلط والاستبداد، بحيث تتماشى مع تقنيات العصر. وما هو إلا تحديثٌ وتجديدٌ لخلايا التسلطية التي غالباً ما تنتقل عدواها من حاكم إلى محكوم.
بدأ الحديث عن مسألة التكيّف من خلال دراسة الجسم البشري، وكيفية تكيّفه مع التحولات المناخية والغذائية. كما استخدم كثيراً في العلوم النفسية للتطرّق إلى تكيّف الإنسان مع حالة مستجدّة. ويمكن تعريف التكيف بالقدرة على تجاوز صدماتٍ متعدّدة ومختلفة، مثل موت قريب أو سوء المعاملة أو العنف الجنسي أو الحروب ... إلخ. والكلمة بحد ذاتها ذات مصدر فيزيائي، إذ تشير إلى استطاعة جسم لمقاومة صدمة. وإن جرت الاستعانة به في مجال العلوم الاجتماعية، فيجمع عدد من المتخصصين على إمكانية أن نجد له تعريفاً يُشير إلى القدرة على النجاح في العيش والنمو بطريقة إيجابية، ومقبولة اجتماعياً، على الرغم من الضغط العصبي والتوتر النفسي، أو على الرغم من عدائيةٍ تحمل في جنباتها، بشكل طبيعي، احتمالات خطر الوصول إلى نتائج سلبية. ويمكن اعتبار نجاح هذا التعريف مرتبطاً بما يحمله من رسائل الأمل، أو التماسك الذاتي أمام الصعوبات، فالتعاسة والإحباط ليسا مصيراً محتوماً.
سياسياً، برز المفهوم عند الحديث عن نوع من مقاومة المجتمعات التسلطية والقمع والمآسي
أما وأن المطلوب هو التحدّث عن تكيّف التسلط مع التغيرات، فالتحدّي صعبٌ وممتع. وتاريخ المنطقة العربية الحديث غنيٌ بالشواهد والأمثلة. لقد فشلت أغلب الدول في بناء الدولة / الأمة، إثر خروجها من الاحتلالات الأجنبية، وإثر نجاحها في اطلاق حركات تحرّر وطنية "تكيّفت" مع مستلزمات النضال وصعوبات المواجهة وتحديات التحالفات الدولية والإقليمية التي واجهتها. وللاستعاضة عن هذا الفشل الذريع، والذي ربما تميّزت به هذه المنطقة الجغرافية من العالم عمّا ماثلها من أممٍ تحرّرت من الاستعمار، فقد طوّرت أنظمتها أساليب استبدادية قابلة للتجدّد وللتكيّف مع مختلف الظروف المحلية والإقليمية والدولية. ولقد استنبطت لأجل تحقيق هذا الهدف ما تسمى الدولة الأمنوقراطية، ففيها يتجاوز مدى العقلية الأمنية وسطوتها وتأثيرها، كما أجهزة هذه العقلية، كل ما تم التعارف عليه من حكومات عسكرية، أو ما تسمى جمهوريات الموز، أو حتى النظم البوليسية، فالمفهوم الأمنوقراطي يُحيل كل أجهزة الدولة، كما مؤسساتها، إلى بيروقراطية أمنية. كما أنه يُسخّر الحزب الحاكم بجماهيره، إن وجدت، وبأدواته، لتكون وسيلة تعزيز لتغوّله الأمني وإرهابه الممأسس. كما أن الجيش، يكون أيضاً من ضحايا الدولة الأمنوقراطية، إذ يجري العمل على إضعافه، لمنعه من السعي إلى قلب نظام الحكم. كما يتم تسليط صغار الأمنيين، ليكونوا أسياداً على كبار العسكريين. ومن جهة القضاء، يتحول القضاة إلى أدواتٍ من السهل رميها أو تحطيمها لدى هذا الجهاز الأمني أو ذاك.
ومن الضروري الإشارة إلى تعدّد الأجهزة الأمنية وتوازيها من دون تشبيك أو تنسيق، إلا فيما ندر. وهي مثاليةٌ في خضوعها إلى رأس السلطة، دونما محاسبة مسلكية أو مالية أو مساءلة حول عملياتها التي غالباً ما تمسّ الشعب المحلي، بحجة التصدّي للعدو الخارجي.
وفي أكثر الأمثلة تعبيراً هو ما أوردته الأقاصيص عن دولةٍ عربيةٍ عميقة الخبرة في الأمنوقراطية المستفحلة، حيث تم التوجه إلى عنصر صغير من جهاز أمني ما، برجاء الخروج
وفي السياسات الخارجية، تتعدّد الأمثلة على تكيّف الدول التسلطية لتفادي المواجهات التي يمكن أن تؤدي إلى زوال الحكم، لا سمح الله. فهي تغيّر التحالفات بسرعةٍ لافتة، ولا تجد أنها مجبرة بتبرير هذا التحول. كما أنها تُسارع إلى تقديم الخدمات الأمنية والعصاباتية والاحتلالية لتلك القوة الإقليمية أو لتلك القوة الدولية. وهي تستشرف المستقبل، بحيث تُهيئ للأزمات الداخلية بتصعيد المواجهات الخارجية، أو تتمكّن من تحويل الاحتجاجات الشعبية إلى مواجهاتٍ مسلحة، سرعان ما تعطيها "الحق" و"الشرعية" بقمعها دموياً.
يتكيّف التسلط عربياً مع مختلف التغيّرات الإقليمية والدولية، وحتى المناخية. إنه يعيد إنتاج نفسه. وإن تحدّث عن إصلاح وتطوير وتحديث، فما هو إلا إصلاح لاختلافاتٍ في الرؤى حول نجاعة هذا التسلط أو ذاك. وما هو إلا تطوير لأدوات التسلط والاستبداد، بحيث تتماشى مع تقنيات العصر. وما هو إلا تحديثٌ وتجديدٌ لخلايا التسلطية التي غالباً ما تنتقل عدواها من حاكم إلى محكوم.