مع إعلان كل من واشنطن وموسكو تعليق مشاركتهما في معاهدة الحدّ من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، بات العالم وكأنه انخرط مرة أخرى في حقبة "الحرب الباردة" وسباق التسلّح وسط تفكك منظومة الاستقرار الاستراتيجي، التي ظلت قائمة عقوداً عدة. على الرغم من ذلك، حاول المسؤولون الروس والأميركيون نفي هذا الأمر، ومنهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي قال يوم الاثنين الماضي، إن "الانسحاب التام للولايات المتحدة من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، لا يشير إلى بدء حرب باردة جديدة"، مفضلاً الحديث عن "بدء عصر جديد".
ولما كان الانسحاب من المعاهدة ينذر بتطوير واشنطن أنواعاً جديدة من الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال اجتماع متلفز مع لافروف، ووزير الدفاع، سيرغي شويغو، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، أن "بلاده لن تردّ بنشر مثل هذه الأسلحة، إلا إذا قامت الولايات المتحدة بمثل هذه الخطوة"، مصدراً في الوقت نفسه أوامره ببدء تطوير صواريخ "كاليبر" يمكن نشرها براً، بالإضافة إلى منظومات برية لإطلاق صواريخ باليستية متوسطة وقصيرة المدى تفوق سرعتها سرعة الصوت.
في هذا الإطار، أشار أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، إلى أنّ "روسيا لديها خيار لنشر صواريخها بجبهاتها الغربية، مثل مقاطعة كالينينغراد الروسية المطلة على بحر البلطيق، أو بأراضي حليفتها بيلاروسيا أو حتى في أميركا اللاتينية". وأضاف كوكتيش في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "روسيا ستدرس خيارات نشر الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، ولكنها لن تقدم على ذلك إلا رداً على أعمال مماثلة من طرف واشنطن. لدى روسيا خيارات نشر الصواريخ في كالينينغراد وفي بيلاروسيا، ونظرياً حتى في إحدى دول أميركا اللاتينية، إذ إن هناك سابقة نشر الصواريخ السوفييتية في كوبا".
ومع ذلك، لا يستبعد الاحتمال أن "يكون إعلان واشنطن انسحابها من المعاهدة يهدف إلى المساومة من أجل التوصل إلى معاهدة جديدة تكون ثلاثية بمشاركة كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين". وخلص كوكتيش إلى القول إن "المبادرة الأميركية لا تخلو من دوافع داخلية في ظل سعي سيد البيت الأبيض، دونالد ترامب، لإسناد عقود إلى قطاع التصنيع العسكري الأميركي بقيمة مئات مليارات الدولارات، مما يتيح له الإبقاء على سيطرته على الحزب الجمهوري".
من جهته، رأى الخبير العسكري، قسطنطين ماكيينكو، أن "انهيار معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى سيؤدي إلى عواقب وخيمة على الأمن الروسي، وفي مقدمتها تطوير الولايات المتحدة خلال فترة وجيزة ونشرها جيلاً جديداً من الصواريخ الباليستية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت".
وفي مقال بعنوان "لم يهدد العالم إنهاء معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى؟" نشر بصحيفة "فيدوموستي" الروسية، أشار ماكيينكو إلى أن "خطورة الوضع الراهن، على عكس الوضع في ثمانينيات القرن الماضي، تكمن في إمكانية نشر الصواريخ الأميركية اليوم في أوروبا الشرقية وحتى الجمهوريات السوفييتية السابقة، أي بالقرب من المواقع السياسية والعسكرية والصناعية الاستراتيجية الروسية، مما يترجم إلى قدرة الصواريخ على الوصول إليها في ظرف عشرات الثواني، بدلاً من 6 - 8 دقائق، كما كان الحال عليه في القرن الـ20".
وأضاف أن "نشر صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت في أوروبا الشرقية أو البلطيق لن يترك للقيادة العسكرية - السياسية الروسية وقتاً لاتخاذ قرار مدروس بشأن استخدام قوات الردع النووي، مما سيبطل مفعول رؤية الضربة الجوابية، وذلك للمرة الأولى منذ إقامة الدرع الصاروخية النووية السوفييتية".
وفيما يتعلق بالردود الروسية المتوفرة في حال إقدام واشنطن فعلياً على نشر صواريخ مطوّرة في بلدان أوروبا الشرقية، فقد لخصها الخبير العسكري الروسي في "تصويب الأسلحة النووية الروسية على تلك الدول، ونشر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات بمناطق خارج مدى الصواريخ الأميركية، والتخلي عن القيود المتعلقة بتصدير الصواريخ ذات مدى يزيد عن 300 كيلومتر، وحتى نقل العاصمة والأنشطة الاقتصادية الرئيسية إلى سيبيريا والشرق الأقصى".
ومع ذلك، توقع ماكيينكو "احتمالاً كبيراً بأن تتحرك بلدان أوروبا الغربية لمنع نشر صواريخ أميركية جديدة في شرق القارة"، مذكّراً بأن "ألمانيا تمكنت من مواجهة الضغوط الأميركية في مشروع (السيل الشمالي-2) الحيوي لنقل الغاز الروسي".
وفي الوقت الذي تصدّرت فيه أنباء تعليق الولايات المتحدة وروسيا مشاركتهما في معاهدة الصواريخ، عناوين الإعلام الروسي والعالمي خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، تواصلت ردود الفعل الروسية مع بداية الأسبوع الجديد. وأعرب لافروف عن أسفه لـ"توجه الولايات المتحدة نحو كسر منظومة مراقبة الأسلحة كاملة"، مؤكداً في الوقت نفسه أن "روسيا لا تسعى لخوض سباق التسلح، ولكنها سترد على التهديدات".
يذكر أن الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى أصبحت منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، تشكل أكبر مصدر للخطورة على الطرفين المتخاصمين في "الحرب الباردة"، أي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، نظراً لقدرتها على إصابة منصات الإطلاق ونقاط القيادة في ظرف دقائق معدودة، على عكس الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والبالغة مدة وصولها إلى الهدف عشرات الدقائق. ولعل هذا دفع بموسكو وواشنطن في عام 1987 إلى إبرام المعاهدة التي نصت على منع إنتاج ونشر صواريخ مجنحة وباليستية أرضية ذات مدى من 500 إلى 5500 كيلومتر.