كوميديا الراعي والقطيع

27 نوفمبر 2014
باول كوشينسكي/ بولندا
+ الخط -
هكذا، ببساطة، قرّر الراعي أن يقلّد الضباط في نظامهم الصّارم، فقاد قطيعه الجرّار وحماره الوحيد، وكأنهم جميعاً في عرض عسكري كبير. بدت الخراف منظّمة كالجنود، والحمار ملتزماً مثل ضابط تلميذ في حفل تخرُّج دفعته. كما أتقن الراعي رفع ساقه من مفصل الفخذ دون ثني ركبته، ومن إدارة وجهه، برأسٍ مرفوعة، وفقاً للأمر العسكري المعروف: "يمين دُر"، مؤدّياً التحية العسكرية باقتدار.

هذا المشهد، بليغ السخرية، الملتقط بكاميرا موبايل، والمنشور على مواقع التواصل الاجتماعي، استطاع إضحاك الكثير من الناس، وأحالنا إلى ما قاله الكاتب الفرنسي رابليه: "الفكاهة رسالة اجتماعية مقصود منها إنتاج الضحك أو الابتسام". والضحك، برأيه، "هو الخاصية المميزة للإنسان"، أي أن الفكاهة تضع الإنسان في لحظة تميزه عن سائر الكائنات.

ولو أن مشهد الراعي مع "جيشه الغنمي" كان جزءاً من فيلم سينمائي أو مسلسل كوميدي، لتطلّب الأمر عدة عمليات ومهام قبل عرضه ضمن سياق فيلمي: كتابة المشهد من قبل الكاتب، رؤية المخرج، أداء الممثل (الراعي)، عمل المصوّر، دور الماكيير، مصمّم الملابس، تأمين القطيع من قبل المنتج المنفّذ، اختيار مكان التصوير، نقل الكادر والمعدات، عمليات المونتاج والمكساج، وضع ميزانية مالية له، إلخ.

هذا يُعدّ مؤشراً إضافياً أو دليلاً من بين عشرات الأدلة الحديثة التي تقرّ بعودة صناعة الكوميديا إلى المجتمع، وذلك بعد أن امتلك معظم الناس وسائل النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما سمح لشكل جديد من النكات بالتوغل الجماهيري السريع، لكن بأدوات مختلفة.

فمع ازدهار السينما والمسرح، ثم ثورة التلفزيون الجارفة، انحسرت الكوميديا الشعبية التي يصنعها الناس بعفوية، وأصبحت، إلى حد كبير، حكراً على الكاتب والمخرج والممثل. طبعاً، استمرت النكتة الشعبية وحكايات الظرفاء، لكن بمستوى أدنى.

صحيح أن الفن، خصوصاً الكوميدي منه، يستمد غالباً أفكاره من واقع الحياة، كما قال القاص الكوميدي السوري الراحل حكمت محسن (1910 – 1968) عندما سئل: "من أين تأتي بهذه الحكايا؟"، فأجاب: "انظرْ إلى الشارع، طالما هناك أُناس يسيرون في الطريق، فاعلم أن الحكايا لن تنتهي".

لكنّ المعادلة انقلبت عما كانت عليه في العقدين الأخيرين من الألفية الثانية؛ إذ كانت الجماهير تردّد وتتناقل ما يقدمه الفن المتلفز لهم، متضمّناً ذلك المسرح والسينما. ويصحّ القول، كمثال على ذلك، إن بعض العبارات الواردة في مسرحيات كوميدية لفنانين معروفين، مثل عادل إمام، وسعيد صالح في مصر، وزياد الرحباني في لبنان، ودريد لحام ونهاد قلعي في سوريا، قد صارت مثلاً متداولاً بين الناس.

اليوم، وبعد انتشار موجة وسائل التواصل الاجتماعي التي اجتاحت العالم، تغيرت قواعد كثيرة في لعبة الكوميديا وطُرق تلقيها وانتشارها، فأصبح المواطن العادي منتجاً للفكاهة، وبالتالي منتجاً للضحك. وبعضها وصل إلى مراحل متقدمة فنال شهرة كبيرة تقاس بعدد المشاهدات التي يحققها الفيديو أو الصورة. فبينما كان راعي الأغنام في السابق مجرّد متلقٍّ للفكاهة، أصبح مصدراً لها، فهو الكاتب والمخرج والممثل والماكيير ومصمم الملابس ومدير التصوير والمنتج.

وفي الوقت الذي كانت بعض الأفلام المنزلية تجد نافذة ضيقة في بعض المحطات التلفزيونية، في برامج تُسمّى "طرائف الفيديو المنزلي"، نجد أن الإنترنت، خصوصاً موقع يوتيوب، قد فتح لها باباً واسعاً، في متناول الجميع، لا بل منصة للشهرة والثراء. فمقطع فيديو لشاب يقف على مقربة من سكة القطار أثناء مروره، يحقق أكثر من 23 مليون مشاهدة خلال أسبوع واحد، كل ذلك لأن سائق القطار الذي كان يصرخ بأعلى صوته كي يبتعد الشاب عن السكة، لم يجد بدّاً من أن يركله بحذائه على وجهه، ركلة جعلت الشاب يكسب مبلغاً يقدّر بـ 250 ألف دولار.

وعندما نعلم من موقع يوتيوب أن نحو 100 ساعة فيديو جديدة تُضاف كل دقيقة، فإن ذلك يرتب على مصادر الكوميديا التلفزيونية والمسرحية والسينمائية أعباءً وجهوداً كبيرة كي تنال إعجاب ومشاهدات المستخدمين؛ ما يدفعها إلى التركيز على برامج الـ"توك شو"، خصوصاً أن ما يزيد عن مليار مستخدم شهرياً يدخل هذا الموقع من 61 بلد حول العالم، لمشاهدة ما يزيد عن 6 مليارات ساعة من مقاطع الفيديو المتوافرة على الموقع.

المساهمون