كوريسماكي..مكثّف بشكل يسهل فهمه

06 مارس 2017
(كوريسماكي يتسلّم جائزة الدب الفضي، تصوير: بريتا بيدرسن)
+ الخط -

 

"لأن العصر مثل النعش، لأني جثّة في النعش، لأن الناس دمى من قش، لأن لأن لأن .."
نجيب سرور – إحباطات شعرية
هكذا يستسلم مبدعٌ آخر للحياة القاسية، كوريسماكي واحد من آخر أجيال المبدعين المستمرّين في صناعة الأفلام يقرّر فجأة التوقّف عنها، كما سبق أن توقّف بيلا تار عند فيلمه الأخير حصان تورينو (The Turin Horse)، والذي تكرّرت فيه مشاهد للناس الدمى، الجثث التي تنتظر مصيرها، وربّما أيضًا يتوقّف الألماني ميكائيل هانيكا هو الآخر عند فيلمه الأخير القادم (نهاية سعيدة – Happy End)، كما ذكر في إحدى المقابلات الصحافية، ليبقى لنا من كبار أوروبا القليل القليل.

لكن الفنلندي كوريسماكي الذي سيحتفل بعيد ميلاده الستين مطلع الشهر القادم، قرّر التوقّف فجأة عن مسيرته السينمائية الممتدة لأكثر من ثلاثين عامًا، سواء لأنه شعر بعدم جدوى المحاولة في البحث عن جودة فنيّة أكثر في أفلامه، أو لأنه ربّما يود الاستمتاع بحياته. سبق أن كرّر تلك الفكرة في أكثر من مرّة، كما نتمنى أن لا ينفّذها ويستمر بإتحافنا بسينماه الفريدة الجميلة.

"في لندن عام 1976، أجبرني أخي على الذهاب بصحبته لمعهد الفيلم، حيث شاهدت فيلم (قصّة طوكيو – Tokyo Story)، عندها تخليت عن أحلامي في الكتابة الأدبية، وقرّرت البحث حينها عن الغلاية الحمراء، لقد نشأت على مشاهدة الأفلام الأميركية، ولكن ما أحترمه أكثر أن صاحب الغلاية الحمراء، ياسوجيري أوزو، استطاع التعبير عن النفس البشرية بمنتهى الإخلاص، دون اللجوء للعنف أو الجريمة، لذا بعدما أنجزت أحد عشر فيلمًا، أنوي إنجاز ثلاثين آخرين لكي لا ألقى نحبي دون أن أثبت لنفسي وللجميع، بأنهم لن يصلوا لكَمال سينما السيد ياسوجيري أوزو".

(كوريسماكي في أحد اللقاءات المصوّرة، ويمكنكم مشاهدته من خلال الرابط في الأسفل)

تلك الرغبة الجامحة في صناعة الأفلام، وتلك النية للاستمرارية، لم توقفها عقبات الحياة أو الإنتاج، فـكوريسماكي كما يذكر، لمدّة عشر سنوات في بداية مسيرته لم يتلقَّ أي أموال على أفلامه، لم يحصل على أي أرباح، فقط يجمع النقود ثم يموّل بها فيلمًا جديدًا، فهل من الممكن أن تتوقّف الآن؟ بكل تأكيد لا.

هذه المرّة عقب المؤتمر الصحافي الذي عقده في مهرجان برلين لهذا العام، والذي فاز فيه بـ"الدب الفضي" كأحسن مخرج عن فيلمه (الوجه الآخر للأمل - The Other Side of Hope)، أخبر كوريسماكي بعض الصحافيين بأنه سيعتزل بعد هذا الفيلم، لأنه اكتفى من هذا العالم، كـوالد آرييل، ولكنه هنا لم يُطلق على نفسه الرصاص.

وسواء كانت تلك الأخبار صحيحة أم كاذبة، إلا أنها تعبّر عن حقيقة موجودة، وهي حالات الإحباط المستمرة، والمعاناة التي يعيشها كوريسماكي، والتي يريد وضع حدّ لها، كالصعوبة في البحث عن تمويل لأفلامه، لسوء الأوضاع الاقتصادية لبلده فنلندا، والتي خفّضت نسب الدعم المخصّص لإنتاج الأفلام منذ فترة بعيدة، واعتماد السوق السينمائي هناك على الأفلام الأجنبية والأميركية، خصوصًا الأفلام العائلية، أو لرؤيته التشاؤمية للعالم، والذي أصبح هزليًّا كفاية لكي يتم التعامل معه بجديّة، فبأي منطق يتحكم 1% من سكان العالم في مصير التسعة وتسعين الآخرين؟

كوريسماكي مشغول دائمًا في أفلامه بملح هذه الأرض، الفقراء المطحونين، المحرومين من وسائل التعبير عن أزماتهم الأبدية، ودائمًا يبحث عما يقلق معيشتهم لكي يسخر منه، يفتّت جديّته وتعقيده، يتجاوزه إما برحلة كآرييل (Ariel) الذي شاهد والده ينتحر دون أن ينبس ببنت شفة فقرّر البحث في مكان آخر عن حياة جديدة، ربّما يولد فيها من جديد، أو بذاكرة جديدة وإنسان جديد في (The man witout A past) شاهده مجموعة من اللصوص يمتلك الكثير من النقود فأشبعوه ضربًا، وما أن استفاق حتى وجد نفسه بدون ماض وفاقدًا للذاكرة وسط أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، حاول المضي في حياته دون النظر للخلف، بحث عن عمل حتى وجده ثم حاول أن يحبّ إلى أن وجد حبيبته.

ربّما يتجاوز بأبطاله أزماتهم المتكرّرة في الحب كفيلم (Drifting clouds)، عندما حافظ الزوجان على وتيرة عاطفتهما تجاه بعضهما البعض وسط كل تلك الضربات الموجعة للقدر إثر الأزمة الاقتصادية التي أصابت فنلندا، والتي أطاحت بوظيفة الزوج السائق، وتسبّبت في إغلاق مطعم الزوجة، وبرغم حاجتهما الماسة للمال، إلا أن إخلاصهما للحفاظ على كبريائهما منعهما من قبول مساعدة واهية من الحكومة.

دائمًا ما يكون أبطال كوريسماكي من المغتربين، الوحيدين، العدميين، قليلي الكلام وكثيري الفعل، المخلصين، كل تلك الصفات تشبه كوريسماكي المبتعد عن الأضواء بإرادته، المتردّد والهوائي، ما أن تطرأ فكرة في ذهنه حتى ينفّذها، مثلما أهان صحافي الغارديان الذي سأله عن سبب بغضه لأفلامه، فأخبره بأنها تجبره على الجلوس مع محاور غبي مثله وسماع أسئلته الساذجة.

يُصرُّ كوريسماكي على سبب استمراريته بأنه دائمًا يصنع ثلاثيات، فثلاثية "البروليتاريا"، وثلاثية "فنلندا"، والثلاثية الأخيرة التي أنجز منها فيلمين عن المهاجرين، أحدث مصائب النسبة المختارة التي تفاقمت، حدّ أن يصبح من السهل على أحدهم بأن يخاطر بحياته طمعًا في حياة أخرى.

ففي "الوجه الآخر للأمل"، يحكي عن خالد، السوري المهاجر الذي وصل للعاصمة هيلسنكي، ومصادفة يقابل مزدق، مهاجر عراقي آخر، يشرح له كيفية الاندماج في هذا المجتمع العدمي الغريب، ينصحه مزدق بضرورة الابتسامة والرضى لكي يستمر في هيلسنكي، وفيلم (الميناء – Le Havre) يحكي عن الطفل الأفريقي إدريس الذي وصل لأحد الموانئ الفرنسية في حاوية معدنية، يهرب من الشرطة بمساعدة مارسيل، الذي يبقيه عنده محاولًا إدماجه في مجتمعه.

ما يميّز سينما كوريسماكي كثيرًا هو ذلك الصمت المحيط بالشخصيات، حوارهم مسموع جيّدا دون أية أصوات في الخلفية، سوى بعض الموسيقى والتي تستمرّ لأغنيات كاملة أثناء الفيلم، ذلك الصمت هو من شيم تلك الطبقة الكادحة، المحرومة من أذرع الإرادة، لأنه ضمن خضم ملهاة عبثية، أحلامهم يتمّ وأدها يوميًا، مع طلعة كل صباح، ودون أية مقدّمات، مصيبة تغير مجرى الحياة الرتيبة أصلًا، وحوارهم مقتضب جدًا، مكثّف بشكل يسهل فهمه ويكشف حجم الألم الذي يعتصر قلوب الشخصيات تلك.

خلال مسيرته الطويلة تلك، لم ينل كوريسماكي أية جائزة رئيسية من المهرجانات السينمائية الأهمّ في العالم، رغم ترشحه للعديد منها وفوزه مثلًا بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، ولكن لم ينل السعفة، و"دب برلين الفضي" لأحسن مخرج ولم ينل الدب الذهبي، وكذلك "أسد فينيسيا"، تم ترشيحه لكنه لم ينل الجائزة، ولتلك الجوائز قيمة سوقية هائلة، فهي كثيرًا ما تجعل مسألة البحث عن تمويل لفيلم قادم أقل صعوبة، ربّما كنا شاهدنا أفلامًا أكثر لهذا المخرج الجميل، أو ربّما عندما يفنى الأمل لا مجال للتشاؤم كما يؤمن كوريسماكي، وما جعله يستمر.

المساهمون