في 6 آب/ أغسطس 2019 رحل في مدينة برلين الفنان والمؤرخ الفلسطيني الرائد كمال بُلّاطه بعد نصف قرن في المنفى. وبعد قرابة أسبوعين من الصراع مع سلطات الاحتلال تمكّنت أُسرته من نقل جثمانه ليدفن في مسقط رأسه، حيث واراه ثرى القدس عصر يوم 19 آب/أغسطس، وكانت أول عودة لشخصية ثقافية فلسطينية ترحل في أرض اللجوء. اعتُبرت عودة كمال إلى القدس بشارة عودة. الفنان اليوم ينام في ثرى بلاده وينتظر العائدين.
المحرِّر
تندرج أعمال الفنان والمفكّر الراحل كمال بُلّاطه، رسماً وبحثاً، في إطار تسجيل ما يمكن أن نسميه تاريخ الوعي الفلسطيني التشكيلي، أي أنه مداخلة في موضوع ساده، مثلما ساد الكتابة عن هذا الفن والثقافة الفلسطينية بشكل عام زمناً طويلاً، التحريف والتزوير، إما بسبب إدمان الذات جهل عناصر كينونتها، أو بسبب انتهاز المستعمرين الصهاينة فرصة غياب الرواية الفلسطينية.
ومع أن من فضائل هذا الفنان النادر الرئيسية، في اعتماد متبادل بين الرسم والكتابة، كانت تسجيل تاريخ وعي الفن البصري، ولا سيما في كتابه الأول من نوعه "استحضار المكان" (2000) ومن ثمّ "الفن الفلسطيني من 1850 إلى الزمن الراهن" (2009 بالإنكليزية)، ومن قبلها مقالاته ودراساته (بدأ بنشرها منذ السبعينيات، ومن بينها دراسته "الفن "التشكيلي خلال نصف قرن" في "الموسوعة الفلسطينية"، 1989)، إلا أن هذا الإنجاز كان فتحاً أيضاً لآفاق أخرى تسمح لآخرين بمراجعة وتسجيل تاريخ وعي مسارات في الثقافة الفلسطينية يكاد الوعي بها يكون مشوّهاً أو غائباً.
بهذا المعنى يمكن القول إنه يستحق لقب الفاتح، ليس لأرض بحثية جديدة كانت جزءاً من تأريخ للوعي يجب أن يمارسه إلى جانب الفنان، الشاعر والروائي والمسرحي والموسيقار والباحث، بل ولأراضٍ أُخرى قلّما انتبه إليها المثقفون العرب، والفلسطينيون بخاصة، مثل تنويهه بتحرير الفن العربي/ الإسلامي الهندسي للفن الغربي من قيود تراثه الذي صرفه في محاولة إنتاج وهم بواقع مرئي، ومثل كشفه عن الصلة الحميمة بين الفن البيزنطي والفنون الإسلامية التي شكّلت خصائص جمالية أصبحت مصدر إلهام أعماله الفنية كرسّام معاصر.
خلاصة ما يكتبه ويرسمه ويحلم به الفلسطيني وهو يتهيأ للعودة
حين نتذكره، ونتذكر فتحه الخاص بالفن الفلسطيني الذي لا ينسى، نجد بين أيدينا نقده الجذري لظاهرة الكتابة التي تعاملت مع الفن التشكيلي الفلسطيني، والفنون كلها، من زاوية ضيقة، فلم تر فيه إلا أنه فن لم يظهر إلا بَعْد النكبة. ولم يقتصر الأمر على النقد، بل بحث خلال سنواته المتنقلة بين بيروت والولايات المتحدة والمغرب ففرنسا فألمانيا التي استقرّ فيها قبل رحيله، عن الوقائع الدالة على تاريخ يقارب القرن والنصف لحركة الفن التشكيلي الفلسطيني. ولأن الصعوبات الملازمة لبحث مثل هذا، وتجسيده في الوعي، لم يفرضها عامل واحد بل عدة عوامل، على رأسها تدمير المجتمع الفلسطيني، وقيام المستعمرة المسمّاة "إسرائيل" على أرضه، وما تبع هذا من نهب للأعمال الفنية والمكتبات والبيوت، كان تتبُّع حركة هذا الفن بحاجة إلى ابتكار منهج مختلف عن المناهج السائدة؛ وهو المنهج الذي يقوم على تجميع متن تاريخ تناثرت شظاياه في أمكنة عديدة، بالتنقل جيئة وذهاباً بين الأزمنة والأمكنة. لأن محاولة إنشاء تاريخ للفن الفلسطيني غير ممكنة بمنهج خطي تتعاقب فيه المراحل الزمنية. ونضيف، ومن غير الممكن حتى كتابة رواية فلسطينية بمنهج خطي، بل بما دلّ عليه هذا الفنان، أي بتجميع الشظايا وليس بافتعال مسرد خطي.
ولعل الكشف المثير للانتباه الذي يستحق أن نعيه هو اكتشافه، بعد رحلة طويلة بين المراحل قبل عام 1948، أن الجيل الجديد من الفنانين الفلسطينيين الذي بدأ يحقق تقدّماً طيباً على صعيد الفن العالمي، بالرغم من تباعد أماكن إقامة أفراده، بين مقيم على جزء من فلسطين التاريخية تحت الاستعمار الصهيوني، ومقيم في أجزاء أخرى، في غزة ومدن وقرى فلسطين الشرقية، ومخيمات اللجوء في دول عربية، وبين من ولد لعائلة منفية خارج الوطن العربي، يواصل تنمية فنه في مختلف هذه الأماكن انطلاقاً من تجربته الفلسطينية. ومثل هذا الكشف يكفي لكي نسمّي هذا الفنان المقدسي باسم الفاتح، وجامع الشتات؛ ليس شتات الفن فقط بل وشتات الوعي؛ حاضن ما يكتبه ويرسمه ويحلم به الفلسطيني وهو يتهيأ للعودة إلى وطنه.