لم تكن كلمة الرئيس اللبناني ميشال عون، أول من أمس الخميس، في خروجه الثاني على اللبنانيين منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على قدر التوقعات، لا بل خيّبت آمال الكثيرين لناحية الاستمرار في نهج المماطلة والتهرب من وضع آليات جدية للإصلاح وتحقيق مطالب الشعب التي يمكن تلخيصها بعد تحقيق مطلب سقوط حكومة سعد الحريري، يوم الثلاثاء الماضي، بتشكيل حكومة إنقاذية مصغرة من اختصاصيين على أن تعمل على إقرار القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد وتحضّر لانتخابات نيابية مبكرة على أساس قانون انتخابي جديد بعيد عن الحسابات الطائفية.
وقال عون في أول كلمة له بعد قبوله استقالة الحريري، والتي جاءت كذلك بمناسبة مرور ثلاث سنوات على تسلمه رئاسة البلاد، إنّ الانتقال من النظام الطائفي إلى الدولة المدنية هو طريق الخلاص للبنان من موروثات الطائفية ومشاكلها، لافتاً إلى أنّ البلاد على أعتاب حكومة جديدة وإنه "يجب أن يتم اختيار الوزراء والوزيرات وفق الكفاءة والخبرة وليس وفق الولاءات السياسية"، ليطرح ذلك مزيداً من التشكيك من قبل الحراك حول طبيعة الحكومة المقبلة وشكلها.
وتعليقاً على ذلك، قال الأستاذ الجامعي والناشط في الحراك اللبناني علي مراد، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ الناس كانت تنتظر خطوات عملية وتصوّراً واضحاً لخارطة طريق من قبل عون، لا سيما بالنسبة للحكومة وشكلها، معتبراً أنّ الحديث عن حكومة ذات كفاءة وخبرة لم يقدّم مؤشرات واضحة حول حكومة من ذوي الاختصاص مثلاً.
ورأى مراد أنّ "كل ما قدمه الرئيس في خطابه هو مجرّد كلام"، معتبراً أنه إذا كان جاداً في طروحاته، "فعليه أن يبادر بخطوات عملية". وأضاف أنّ "الخطاب لم يطرح أي جديد، والرئيس كان يقدّم أشبه بما يمكن وصفه بكشف حساب لإنجازاته على مدى ثلاث سنوات، وكان يتوجّه لجمهوره أكثر مما يتوجه إلى المتظاهرين".
وأكّد أنّ المطلوب اليوم من عون أن يقدم على خطوات تؤكّد التزامه وموافقته على الخطط والمطالب التي طرحها الحراك الشعبي، وفق جدول زمني واضح لذلك، مشيراً إلى أنه "ليس من مهمة الحراك أن يقدّم البدائل، كما يطلب البعض، وإنما هذا الأمر من مهمة السلطة، بأن تقدم خطة شاملة، سياسية واقتصادية واجتماعية وقضائية تتوافق مع مطالب الشارع وأن تشرع بتنفيذها بجدية".
وأعطى مراد مثلاً حول ما تطرّق إليه عون بشأن إلغاء الطائفية السياسية، مشيراً إلى أنه بحال كان صادقاً، فعليه تطبيق المادة 95 من الدستور ما بعد اتفاق الطائف عام 1990 والتي تنصّ على أنه "على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية".
وبناء على ما ذكر، يكون هدف الإلغاء التدريجي للطائفية السياسية هو التطبيق الصحيح للدستور لا تجاوزاً له، وفق مراد، الذي أضاف "أي أنّ السلطة السياسية التي أدارت لبنان منذ العام 1992 (أول مجلس نيابي منتخب على أساس المناصفة بعد الطائف) هي التي خالفت الدستور في تقاعسها عن البدء بهذه الإجراءات المرحلية والتدريجية".
ولكن من الإيجابيات بنظره أنّ هناك نوعاً من التراجع عند السلطة، وهناك خطاب جديد تحت ضغط الشارع، ولا سيما اعتبار أنّ ضغط المتظاهرين هو الذي أسقط الحكومة، وذلك في تناقض وتباين واضحين بين رئيس الجمهورية والإعلام والشخصيات المقربة منه التي اعتمدت خطاباً تخوينياً تجاه الثورة الشعبية.
ورأى مراد أنه "آن الأوان لكي يجلس المتظاهرون معاً بشكل أكثر تنظيماً لوضع نقاط يتم التوافق عليها من أجل تحقيقها"، لكنه أوضح أنّ "هذا لا يعني الجلوس مع السلطة أو محاورتها، إذ إنه ليس مطلوباً أن نقدّم لها البدائل، بل عليها أن تبحث هي عن الحلول للأزمات التي وضعت لبنان فيها، ومن بعدها يكون القرار للناس في كيفية التعامل مع توجهاتها".
واعتبر أنّ أي محاولة لتسخيف مطالب الحراك هي "إنكار للواقع"، مضيفاً أنّ "استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، وانفجار الخلافات داخل البيت العوني، وحملات التخوين الشرسة، وإفلات بعض عناصر المليشيات على المتظاهرين، وظهور الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله ثلاث مرات في غضون أسبوعين، تؤكّد أنّ هذه السلطة تأخذ ما يجري من تظاهرات وتحركات على محل الجد". وعن المرحلة المقبلة، قال مراد "علينا أن نأخذ الحراك على أنه مسار وسيرورة"، مضيفاً أنّ "المشهد العام إيجابي جداً وهناك انتصارات تحققت، ولكن المواجهة مع السلطة لم تنته، فقد بدأت مع إسقاط الحكومة والمسار سيتواصل حتى الوصول إلى التغيير المنشود".
وفيما توالت الانتقادات لخطاب عون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصدرت حركات عدة في لبنان بيانات تشجب فيها مضمون هذا الخطاب. ومن هؤلاء حركة "بيروت مدينتي"، التي قالت في بيان: "في الوقت الذي انتظر فيه اللبنانيات واللبنانيون أن يسمعوا من رئيس الجمهورية موعداً للاستشارات النيابية الملزمة تطبيقاً للدستور لتشكيل حكومة تدير المرحلة الانتقالية، جاء خطاب الرئيس مخيباً لتوقّعات المتظاهرات والمتظاهرين، تحت إصرار السلطة على إكمال نهج المماطلة وعدم الاستماع إلى الناس".
وتساءلت الحركة في بيانها: "لماذا لم تبصر مشاريع قوانين جوهرية، كاستعادة الأموال المنهوبة ورفع السرية المصرفية، وقانون موحد للأحوال الشخصية، النور طيلة سنوات العهد؟ فما الذي منع إقرارها في السنوات الماضية؟". وتابعت "كما تجاهلت كلمة الرئيس الإخفاقات الاقتصادية والمالية الكارثية التي تشهدها البلاد، وغابت عنها الأزمات المعيشية ومعضلات الكهرباء والنفايات والبيئة وهجرة الشباب، وهي مطالب أساسية نسمعها في الشارع كل يوم...".
وتعليقاً على ما سرده عون من إنجازات تحققت في عهده، تساءلت الحركة في بيانها "هل من المعقول اعتبار إقرار موازنة العام 2019 إنجازاً؟ هذه الموازنة التي أتت مخيبة للآمال وخالية من إصلاحات جذرية وجوهرية، في ظلّ تأزم الوضع الاقتصادي. وماذا عن تدهور الحريات في لبنان خلال السنوات الثلاث الأخيرة والاستدعاءات المتكررة للناشطين والناشطات والصحافيين والصحافيات؟".
وأكّدت "بيروت مدينتي" أنّ "المطلوب اليوم الاحتكام للدستور والدعوة إلى استشارات نيابية من دون مماطلة لتشكيل حكومة مرحلية، مدنية، مصغرة ومن خارج المنظومة الحاكمة وذلك تحت رقابة الناس ومحاسبتهم".
وكان عون قد قال إنّ الحكومة اللبنانية استقالت "وبات الملف الاقتصادي الثقيل بانتظار الحكومة الجديدة"، مشخّصاً الأزمة الحالية بأنها نتاج "اتساع مزاريب الهدر والفساد معطوفة على أزمات المحيط وحروبه". وأكد أنه "التزم في خطاب القسم بتنفيذ وثيقة الوفاق الوطني وإنجاز قانون انتخابي يؤمن التمثيل العادل لمكونات الشعب كافة"، مردفاً بأنه "التزم العمل على تأمين عودة النازحين السوريين إلى بلادهم والتزم مكافحة الفساد".
بدورها، قالت المحامية والعضو في "بيروت مدينتي"، نائلة جعجع، في حديث مع "العربي الجديد": "نحن لا ننتقد لمجرّد الانتقاد، ولكن هناك مطالب واضحة على السلطة الاستجابة لها. لقد رفع الرئيس عون السقف في موضوع مكافحة الفساد لكنه لم يفسّر لنا كيف سيتم ذلك وما هي آلية التغيير والجدول الزمني لذلك". وأشارت إلى أنه حتى الآن "لم نرَ شخصاً فاسداً واحداً تم اتخاذ إجراءات بحقه لمحاسبته".
ولفتت إلى أنّ "الحراك ما زالت لديه مطالب كثيرة يريد تحقيقها وسيتمكّن من ذلك، فلا شيء مستحيل اليوم"، لافتةً إلى أنه "لم يكن أحد يتوقّع في لبنان أنه في غضون 13 يوماً سيُسقط الشارع التسوية (التي أتت بعون إلى رئاسة الجمهورية وبالحريري إلى رئاسة الحكومة). كما أن السلطة اليوم مرتبكة وتتخبط في ما بينها".
ورأت جعجع أنّ "كل ما يحصل على هامش الحراك من عمليات تخوين وتخويف وحديث عن مؤامرات هي أمور تفصيلية لا نلتفت إليها، ولن نضيع وقتنا في ذلك، فلدينا ما هو أهم. كما أنّ كل هذه الحملات سقطت في الشارع، ونحن موجودون في الساحات وسنواصل تحركنا، وإذا اقتضت الحاجة فسنلجأ لخطوات تصعيدية".