كعكات المِرينْغِي

15 اغسطس 2015
سيف وانلي / مصر
+ الخط -

ما إن أغلقت أمّه الباب، حتّى قفز بِرِيكُو من فراش النّوم وسمع، وأذنه ملتصقة باللّوْح، الخطوات الّتي كانت تبتعد في الدّهليز الطّويل. وعندما تلاشت نهائيا، ارتمى نحو مطبخ الكيروزين وقلّب في أحد المواقد المخرّبة. كانت هنا! قال وهو يخرج كيس الجلد، عدّ القطع النّقدية واحدة واحدة- كان قد تعلّم الحساب وهو يلعب بالأكياس- ثم تثبّت، مندهشا، وجود أربعين قطعة نقدية. وضع عشرين قطعة في الجيب واحتفظ بالباقي في مكانه.

لم يتظاهر بالنّوم في الليل عبثا، بل ليتجسّس على أمّه. والآن أصبح لديه ما يكفي ليحقّق مشروعه الجميل. أمّا فيما بعد فلا مجال للأعذار. في أزقّة صَانْطَا كْرُوثْ هذه، دوما الأبواب مواربة والجيران لديهم وجوه كوجوه المشتبه فيهم. شدّ احذيته شدّا، وخرج مسرعا إلى الشّارع.

في الطّريق كان يفكّر فيما إذا كان سيسْتثمر رأس ماله كلّه أم جزءا منه فقط. لكن تَذَكُّرُه لكعكات الميرينغي-البيضاء، الصّافية، الهشّة- جعلته يقرّر انفاقه كلّه. فيام لاحظها من خلال الواجهة الزّجاجية حتىّ أحسّ بخلاص مرّ في حُلقومه. فقد بدأ يتوافد على محل الحلويّات الموجود في الزّاوية مذْ عدّة أشهر وكان يكتفي بالنّظر فقط. أصبح البائع يعرفه وكلّما رآه يدخل، كان يتساهل معه للحظة ليضربه فيما بعد ضربة على رأسه ويقول له:

-ابتعدْ من هنا، يا ولدْ، إنّك تزعج الزّبناء!

وكان الزّبناء، إما رجالا أجسامهم ضخمة بحمّالات سراويل أم عجائز يحملن أكياسا، يسحقونه ويطؤون عليه ويدكّون محلّ الحلويّات ضجيجا.

رغم ذلك، فقد كان يتذّكر بعض المشاهد اللّطيفة. ذات يوم سأله سيّد، بعد أن لاحظ فيه جزع نظرته، عن اسمه، وعمره، وما إذا كان يدرس في المدرسة، وهل لديه أب، وفي الأخير أهدى له كعكة محلاّة. كان يفضّل كعكة الميرينغي لكن بَدَهَ أنّه في المعروف ممنوع الاختيار. وفي يوم آخر، أهدته أيضا بنت الحلواني خُبْزًا بصفار البيض يابسا شيئا ما.

-هيا ابتعد!- قال طارداً إيّاه من فوق العارض. كان على الفتى أن يبذل جهدا كبيراً، رغم ذلك سقط الخبز في الأرض، وعندما همّ بالتقاطه من الأرض، تذكّر على حين غرّة كلبه الصّغير، الذي كان يلقي له اللّحم المُلوّك ويمرح عندما يتخطّفها بين أنيابه.

لكن لا خبز صُفار البيض ولا الحلوى المعسّلة، ولا حتّى الحلوى الملفوفة المغطّاة بالكريمة هي التي كانت تستهويه: هو كان يحبّ كعكة الميرينغي لا غير. رغم أنّه لم يذقها قطّ، بل كان يحتفظ بصورة حيّة لمجموعة من الأطفال يضعونها في الفم، كما لو أنّها ندفة ثلج، ويوسخون بها ربطات العنق الصّغيرة. مذْ ذاك اليوم، وكعكات الميرينغي هي هاجسه.

عندما وصل إلى محلّ الحلويّات، كان هناك زبناء كثر يشغلون العارض كلّه. انْتظر حتّى يخلو المشهد قليلا، لكنّه لم يستطع أن يقاوم أكثر، فبدأ يدفع. وقتها لم يكن يحسّ بأي خجل والنّقود الّتي كان يتحفّنها كانت تُكسيه بعض القوّة، وكانت تعطيه الحقّ أن يتدافع مع الرّجال أصحاب حمّالات السّراويل. وبعد مجهود كبير، ظهر رأسه في المقدّمة، أمام اندهاش البائع.

أنت هنا؟ هيا فلتخرج من المحل!

انتصب بيركو، غير طائع، وبعبارة انتصار طالبه: عشرون صولة من كعكات الميرينغي! هيمن صوته الحادّ على صخب المحلّ فساد صمت غريب. كان بعضهم ينظرون إليه، مشدوهين، لأنّه كان إلى حد ما غريباً رؤية فتًى يافع من تلك الخصّة يشتري كميّة كبيرة من هذه الحلوى الّتي تجيش منها النّفس. لم يعره بائع الحلوى اهتماما وسرعان ما عاد الهرج والمرج من جديد. بقي بيركو حائراً بعض الشّيء، ومدفوعاً بإحساس بالقوّة، كرّر بصوت آمر:

-عشرون صولة من كعكات المرينغي!

رَقَبَهُ بائع الحلوى هذه المرّة بشيء من الرّيبة لكنّه واصل البيع مع الزّبناء الآخرين.

ألمْ تسمعْ! -أصرّ بيركو هائجاً- أريد عشرين صولة من كعكات الميرينغي!

هذه المرّة اقْترب منه البائع وشدّه من الأذن.

هل تمزح يا متسكّع؟
فلَبَدَ بيركو
هيّا، أرني الدّراهم!

ودون أن يُوارب إباءهُ، وضع على العارض حفنة النّقود المعدنيّة. فعدّها البائع.
وتريد أن أعطيك بكلّ هذا من كعكات الميرينغي؟
أجل- أجاب بيركو بقناعة أثارت ضحك بعض الحاضرين.

-ستصاب بتخمة كبيرة - علّق أحدهم.

تغيّر بيركو. وعندما لاحظ أنّه كان مراقباً ببعض الرّفق المثير شيئا ما للشّفقة، أحسّ بالخنق. وبما أنّ البائع نسيه، كرّر:

-أعطني كعكات الميرينغي- لكن هذه المرّة كان صوته قد فقد الحيويّة فأدرك بيركو، لأسباب لم يتوصّل إلى تفسيرها، أنّه تقريبا كان يطلب معروفاً.

هل ستخرج أم لا؟ -انْتهره البائع.

- بِعْلي أوّلا.

من كلّفك أن تشتري هذا؟

-أمّي.

الظّاهر أنّك لم تسمع جيّداً. عشرون صولة؟ اذْهب واسْألها مرّة أخرى أو أن تكتبه لك في قطعة ورق صغيرة.

بقي بيركو للحظة مستغرقا في أفكاره. مدّ يده نحو القطع النّقدية ثمّ بدأ يسحبها ببطء. ولكن عند رؤيته كعكات الميرينغي من خلال الواجهة الزّجاجية، انْبعثت فيه رغبته ثانية، وهذه الخَطْرة لم يطالب وإنّما رجا بصوت أنّان:
-اعْطيني إذاً عشرين صولة من كعكات الميرينغي؟

وعندما رأى البائع يقترب منه حانقا، وعلى وشك أن يطرده، كرّر طلبه من جديد بطريقة تهزّ المشاعر.

-ولو عشْر صولات، لا غير؟

حينذاك، انحنى البائع من على العارض وضربه على رأسه الضّربة المعتادة، لكن بالنّسبة لبيركو فقد بدت له أن هذه المرة كانت فيها قوة حاسمة.

-ابْتعد من هنا! هل أنت أحمقْ؟ اذهب لتمزح في مكان آخر !

خرج بيركو ثائراً من محل الحلويّات. تتوّه في النّواحي والنّقود المعدنيّة مشدودة بين الأصابع والعينين خضلتين.

في وقت وجيز وصل إلى الجروف. وهو جالس على قمة جرف صخريّ، تأمّل الشّاطئ. بدا له من الصّعب في تلك اللّحظة إرجاع النّقود دون أن يُكتشف، وبطريقةٍ آليةٍ بدأ يرشق القطع النّقدية واحدة تلو الأخرى، جاعلاً إيّاها تُتَنْتِنُ فوق الحجارة.

وبينما كان يفعل ذلك، كان يفكّر في أن تلك القطع النّقدية لم تكن تساوي شيئاً في يديه، وأنّ ذلك اليوم الّذي سيصير فيه كبيراً ورهيباً لناظره قريب. يومه سيقطع فيه رؤوس كلّ أولائك الأشخاص، ورؤوس كل من يعمل في محلات الحلويات، وبما في ذلك طيور البجع التّي تنعق غير عابئةٍ لما حواليها.



* Julio Ramón Ribeyro كاتب قصة من البيرو (1929-1994)
** ترجمة عن الاسبانية: محسن بن دعموش

دلالات
المساهمون