كشف الغطاء عن الطائفية الخرقاء

05 سبتمبر 2018
+ الخط -
لم ينس الناس في مدينة الفلوجة العراقية، على الأرجح، شيئاً من صنوف الموت والعذابات والإهانات التي واجهوها طوال سنواتٍ مضت، على أيدي قوى مسلحة، غزتهم في عقر دورهم، ونكّلت بهم، تحت شعاراتٍ طائفية، ينعكس فيها واضحاً مدى تفشّي غرائز الانتقام البدائية، وتلهج ألسن أصحابها صراحةً بثارات التاريخيْن، القديم والحديث، منذ مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، مروراً بحروب الرئيس الأسبق صدام حسين مع إيران وامتداداتها في بلاده، وصولاً إلى جرائم تنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم "داعش".
كانت الفلوجة مجرّد عنوانٍ أو رمزٍ لحيز جغرافي صار يوصف، بعد الغزو الأميركي عام 2003، بالمثلث السنّي، في تعبيرٍ مذهبي مفضوح، للدلالة على مناطق وسط العراق التي تصدّرت مقاومة الاحتلال منذ أيامه الأُوَل، وهي بالتحديد محافظات بغداد والأنبار وديالى وصلاح الدين، بينما كان رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، في المقابل، مجرّد عنوان أو رمز لقائمة أسماء، ولد أصحابها من رحم زواج المصالح الناشئة آنذاك بين الولايات المتحدة وإيران في بلاد ما بين النهرين، وضمت أيضاً هادي العامري وقيس الخزعلي وأبو مهدي المهندس وسواهم من قادة مليشيات شيعية، تصرفت دوماً ولا تزال كأنها لا ترى في مأساة وطنها النازف ما يستدعي التصدّي لمعالجته، قبل حسم صراع طائفيٍّ، استعصى حسمُه على مدى أكثر من ألف سنة سلفت.
وحيث تكرّست على هذا النحو شيئاً فشيئاً صورة العراق باعتباره بؤرة نزاع دموي رهيب بين السنة والشيعة، فإن ردحاً طويلاً من الزمن سيمرّ قبل كشف الغطاء عن خروقٍ فاضحةٍ في اللعبة الطائفية الجهنمية، يستطيع من يضع عينيه فيها أن يرى كيف تتوارى وراءها المصالح والحسابات الإقليمية والدولية، وهي تتداخل مع المصالح والحسابات الشخصية لقادة الطائفتين المخدوعتين، وطبعاً دونما أي اكتراثٍ بخراب الفلوجة ودمار الموصل، أو جوع كربلاء وعطش البصرة، ولا حتى بدم الحسين، وسبي زينب، وكل ما قيل ويقال من هذا القبيل التاريخي الغابر بغية التغرير بالناس، وحشدهم خلف نُخَبٍ مأجورةٍ وفاسدةٍ ومجرمة.
أنظروا، مثلاً، إلى خريطة التحالفات التي تبلورت مع انعقاد أولى جلسات البرلمان العراقي الجديد، وشاهدوا كيف تعزّزت الخلافات بين القادة الشيعة المهيمنين على حكم البلاد منذ خمس عشرة سنة، وتحوّلت انقساماتٌ حادّة، انسجاماً مع تصاعد التوتر الأميركي الإيراني، وإفرازات الأزمة الخليجية، ونتائج الصراع على سورية، في حين تشتّت ممثلو السنة على هوامش الكتلتين الشيعيتين الكبيرتين، بما يترجم ولاء كلٍّ منهم لإحدى دول الإقليم، أو لمن يدفع أكثر.
وهكذا ابتعد رئيس الوزراء، حيدر العبادي، قليلا عن طهران ليقترب أكثر من واشنطن، وانضمّ إليه نوابٌ سنّة محسوبون على الرياض، متجاهلين حروبه الشعواء ضد مناطقهم في ولايته السابقة، كما خطا منافسُه نوري المالكي خطواتٍ في اتجاه معاكس، أي نحو توثيق عرى علاقته الوطيدة أصلاً بطهران، على حساب علاقته بواشنطن، ولم يجد نوابٌ سنّةٌ آخرون غضاضةً في التحالف معه، نزولاً عند مقتضيات اختلاف تركيا مع الولايات المتحدة الأميركية، وتوافقها نسبياً مع القيادة الإيرانية، متناسين اتهاماتهم السابقة له بالفساد، بل صعودهم أصلاً إلى واجهة السياسة، ثم إلى عضوية البرلمان، محمولين على شعاراتٍ تتوعد بمحاسبته على ما اقترف من جرائم بحقّ قواعدهم الانتخابية.
وليست خيبة عراقيي "المثلث السنّي"، وهم يرون ممثليهم في البرلمان يتحالفون مع قاتلي أبنائهم، أشدّ قسوةً من خيبة عراقيي "الجنوب الشيعي"، وقد استَخْدَمَت نُخَبُهم السياسية المتنفذة ألوفاً منهم وقوداً في معاركها الطائفية، ثم وجدوا أنفسهم أخيراً يتضوّرون عطشاً وجوعاً بين نهريْن كبيريْن، وبجوار آبار نفطٍ تدرّ على بلادهم مليارات الدولارات، فلا يقول لهم أحدٌ كيف تتبخّر، أو إلى أي الجيوب تذهب.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني