كسر قفل

29 يناير 2019
+ الخط -
أحياناً، يكون الشعور بالألم طريقنا للهروب من الشعور بالمسؤولية، وكلما ازداد ضغط المسؤولية، أو هاجسها، ازداد استدعاء الآلام إلى أن تصير عادةً، يتلذّذ صاحبها بتكرارها، وتصبح سمةً وسمتاً، وهو ما يسمّيه علماء النفس المازوخية الحميدة. في حالتنا، نحن ثوار يناير في مصر، ما بعد الانقلاب، تحول الألم لدينا إلى "موقفٍ" يجري التعبير عنه، وتسجيله، والمحاسبة أحيانا بقسوة على التغيّب عنه، والمؤاخذة على محاولات تناسيه، أو تجاوزه، أو إخفائه.
ما آلت إليه الأحوال في مصر ليس فشلاً للثورة فحسب، إنما فشلٌ أكبر للدولة، ومن راهنوا على استعادتها (كأنها كانت موجودة)، ومن وعدونا بأنهار اللبن والعسل، ثم عادوا ليتحدثوا عن الرئيس الذي لا يملك عصا سحرية، ومن تحدّثوا عن مصر الغنية التي لا تستحق ما فعله بها الإخوان المسلمون، وما كان في نيتهم فعله، ثم عادوا ليحدثونا عن الفقر المدقع وشبه الدولة وقروض البنك الدولي وهبات الخليج، وفواتيرهم التي لا يدفعها سوى من صدّقوا هذه العهود، ربما عقابا لهم على تصديقهم.
ربما تكون الثورة، والمشهد كذلك، هي الشيء المنطقي الوحيد، ويكون الثوار برومانسيتهم الطرف الأكثر واقعيةً، هؤلاء الذين رأوا في هذا النظام كارثةً، أرادوا أن يتجاوزوها، ثم هم الآن متهمون بكل شيء، حتى إخفاقات النظام، وفشله المتكرّر، يحمّلونه بوصفه نتيجةً لما فعلوا، فلو لم يثوروا ما فشل النظام، فالفشل ابن الثورة، وسبب تكرار الفشل تكرار أوجه الرفض، البوست والمقال والكوميكس، والظهور على فضائيات الدوحة وإسطنبول ولندن، كل هذه أسبابٌ وجيهةٌ لفشل النظام، وإرهاق نفسيّته المرهفة، ومبرّرات وجيهة لاعتقال أصحابها وسجنهم وتشريدهم، بل وقتلهم إذا لزم الأمر، وإذا لم يلزم.
هنا يضحك الفاشل أمام الكاميرات، فيما يتألم طالب النجاح، ولا يكفّ، فهل نحتاج إلى تبلد الفاشل، وثقته المجانية في فشله، بالأحرى في قدرة أسلحته على حراسة الفشل، أم نحتاج إلى تلذّذ المهزوم بهزيمته؟
في ذكرى يناير الثامنة، ما زلنا نتحدث عن يناير، على الرغم من كل ما لحق بهذا التاريخ من تزوير ومحو للذاكرة، ما زلنا هنا، وهو ما يعني أننا أنجزنا ما يستحقّ أن نكمله، على الرغم من انتكاساتنا وهزائمنا. السودان ينتفض، لم تزل سيولة الحدث، لم تهدأ المنطقة بعد، الطغاة يدركون ذلك، وعبد الفتاح السيسي يستقبل عمر البشير ويدعمه، ويرسل رجاله وأجهزته للمساعدة، إنه يخشى من ثورة في السودان ترتد إلى كرسيّه، وتسحبه من تحته. العُزّل في الخرطوم يرعبون المسلح في الاتحادية، فمن عليه أن يتألم، ومن عليه أن يراقب ويرصد ويتأمل في الغد القريب؟
بشار ينتصر، في الظاهر. يقتل نصف شعبه ويُكمل، يشرّد الملايين، ويُغرقهم على سواحل اللجوء، ويكمل، يتمتع بدعم أقوى جيوش العالم في مواجهة من يموتون بردا وجوعا. وعلى الرغم من نجاحاته المخجلة، لم يتحوّل إلى نموذج. لم يخش السودانيون مصير السوريين واليمنيين والليبيين، كما يخبروننا ليل نهار في فضائيات الأنظمة. السودانيون لا يصدقونهم، إنما يصدّقون أنفسهم، يصدّقون تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسورية، على الرغم من كل شيء، كم نحتاج لتصديق أنفسنا قدر ما يصدّقنا السودانيون.
استمرار كل أسباب الألم من مبرّرات واقعية للأمل القريب. يروننا، ويدركون أننا قريبون، لو لم نكن كذلك، ما استمرّوا في إجراءاتهم القمعية، سجنا وسحلا واعتقالا، وكذبا وزورا وتشويها. يروننا ولا نرى أنفسنا.
شيء آخر غير الألم، يحتاجه ثوار مصر، ليس الادّعاء الكاذب باستمرار ثورة فقدت كثيرا من رصيدها، إنما المراهنة على ما تبقى من هذا الرصيد في مقابل خواء خزانة النظام من أي شيء سوى تبديد الملايين في بناء جوامع وكاتدرائيات في الصحراء، فيما لا يجد الناس خبز يومهم، ويدفعون أولادهم من النوافذ لموتٍ محتمل، كي لا ينفقوا عشرة جنيهات، لـ "كسر قفل"، ألم يكن الموت في الميادين أشرف وأكرم؟!، نحتاج أن نخبر الناس بذلك، وسيصدّقوننا.