تبدّى للمفكّر الألماني تيودور أدورنو (1903 - 1969)، فراغُ الاعتقاد بتقدُّم البشرية على أساس العقل، ليكتب في "الجدل السلبي" (1966)، أن التاريخ الكوني لا يقودنا من المتوحّش إلى الإنسان، ولكنه قد يقودنا من المقلاع إلى القنبلة. إن الفلسفة الغربية، التي يُعتبر العقل مقولتها المركزية، هي في تمركزها حول العقل، تنتهي دائماً إلى العنف.
وحين ينافح أدورنو عن فلسفة تعترف بهوية غير المتماثل، بالغريب والخاص داخل التفكير، فإنه ينتقد مركزية الفلسفة الأوروبية؛ فالنقد غير المتماثل، والذي يمثّل بالنسبة لـ أدورنو شرط استمرار الثقافة بعد آوشفيتز، يمثّل في الوقت نفسه تفكيكاً للميتافيزيقا الغربية. ولا ريب أن أدورنو في مطالبته بالتفكير في الاختلاف، يحاول تحرير الديالكتيك من إكراه الهوية، إذ إن الجدل السلبي يتوجّب أن يتجاوز حدود النسق متى أراد أن يكون عادلاً تجاه الغريب.
إن فكر الاختلاف لا يطلب فقط عدم ابتلاع الغريب، بل لا يطلب حتى معرفته، أو على الأقل لا يطلب معرفته معرفةً عقلية. إنه فكر يترك للغريب غرابته، إذ كما يكتب أدورنو: "إن الوضع المتصالح لا يلحق الغريب به عبر إمبريالية فلسفية، بل يجد سعادته في أن يظل الغريب في قربه بعيداً ومختلفاً، في ما وراء المتنوّع والشبيه".
لن نبالغ إذا قلنا إن العقل المغلَق للفلسفة الغربية يتكشّفُ بوضوح وتسقط أقنعته الإنسانوية، حين يقرّر "التفكير" في الآخر، من كانط وهيغل وفولتير وحتى الفلاسفة المعاصرين، بل يمكننا القول إن الفلسفة الغربية، حين تقرّر التفكير في الآخر، تُحجم عن التفكير وتُطلق العنان لنوازعها البدائية؛ الآخر يبدو كما لو أنه لا يستحق جهد المفهوم، أو لا يستحق مفهومه الخاص به، ولأن الحكم المسبق قادر على أداء هذه المهمة.
سنقف على ذلك عند كانط مثلاً، في "الجغرافيا الطبيعية"، حيث يؤكّد أن الإنسانية بلغت كمالها مع العرق الأبيض، نافياً أن تكون للهنود أو الأفارقة أي موهبة، بل وسينافح كانط عن العبودية في هذا الكتاب كعقاب للأفارقة على كسلهم، حتى وإن انتقد عنف الأوروبيّين في "السلام الأبدي". إنها العبودية نفسها التي سيدافع عنها هيغل في "المحاضرات حول فلسفة الدين"، معتبراً أن البشر في أفريقيا ما زالوا في وضع بين الإنسان والحيوان، ولهذا لا تملك أفريقيا أي أهمية تاريخية بالنسبة لتصوّره عن التاريخ الكوني.
لقد تحدّث روسو في كتابه "خطاب في أصل التفاوت بين البشر" عن فلسفة "لا تُسافر"، وهي تلك التي تكتفي بترديد ما تقوله تجارب شخصية معينة، لترتفع بالخاص إلى مستوى النسق، كما فعل هيغل في حديثه عن الثقافات الأخرى، الذي اختار "سفر الفلسفة"، دون أن يقوم هو نفسه برحلة فلسفية. فقد ظل مقيماً في برلين، لكنه أطلق روح(ه) العالم في كلّ القارّات، ليخبرنا في نهاية الرحلة بما كان يعرفه أو يريده منذ بدايتها.
إن المركزية الأوروبية لهيغل ستتحوّل إلى مركزية جرمانية مع هايدغر، كما في محاضرته: "أوروبا والفلسفة الألمانية"، والتي ألقاها عام 1936، مؤكّداً أن مهمّة الفلسفة اليوم لا يمكن أن تضطلع بها سوى الفلسفة الألمانية، والمتمثّلة في رأيه في توحيد الشعوب الأوروبية وحمايتها من الخطر الآسيوي. هذه الهيغلية ستسمر إلى يومنا هذا في الخطاب الفلسفي الغربي، ولن نعدم أمثلة كثيرة عنها، ظاهرية ومستترة، كلها تدور حول سؤال المعنى، وكلها تدافع عن حضارة الغرب أو نضجه مقابل طفولة الآخرين، إن لم يكن همجيتهم.
ولكن، حتى نعود إلى العلاقة بين الفلسفة والسفر، يحق لنا، حين نُلقي نظرةً على تاريخ الفلسفة أن نتساءل: لماذا طوّرت الفلسفة شكّاً بالتجربة وبالعالم الحسي وبالسفر؟ والمدهش أن المفاهيم المركزية في الفلسفة الألمانية لها علاقة بمجال الرؤية والنظر، مثل الإدراك، والفكرة والنظرية، ومفاهيم أخرى كثيرة. لكن السفر الفلسفي، ظلّ، كما لحظنا ذلك مع هيغل، يبدأ هناك حيث يتمّ تجاوز العين المجرّدة، التي ظل أهل الكهف في أسطورة أفلاطون مرتبطين في سذاجة بها.
إن رحلة الحقيقة لا تحتاج سوى إلى أعين محضة. أمّا المسافر فتم النظر إليه في اليونان القديمة كـ"Atopotapos"، كشخص لا مكان له ولا انتماء، بل حتى هومير وهو يتكلّم على لسان أوديسوس لم يجد شيئاً أسوأ من السفر، في حين تظلّ الصورة النقيضة تقليدياً لخوف الفلسفة من السفر هي صورة المؤرّخ، الذي يفهم نفسه كشاهد عيان على ما يحدث، فالتاريخ في معناه الأولي لدى هيرودوت هو تلك المعرفة التي نكتسبها عبر التجربة، ولهذا ميّز هيرودوت بين ما يحكيه الناس وما وقف عليه بنفسه خلال أسفاره العديدة، بل إن المعنى الأولي لكلمات "Theoria" و"Theorein" عنده كانت تعني السفر.
إن النظرية هنا تُفهم كتجربة أو كمعرفة يكتسبها المرء عبر السفر. أمّا أفلاطون في "القوانين" (Nomoi)، فلن يسمح لمن هم دون سن الأربعين بالسفر، ولا لمن بلغوا الستّين. والمسافر الذي ساءت أخلاقه في الغربة، يتوجّب إبعاده عن الناس، وإن لم يلتزم بذلك، يتوجّب قتله. وقد وجد أرسطو في حركة الجسد عقبةً أمام عمل العقل، فالإله نفسه بالنسبة إليه، لم يكن مسافراً، ولهذا ظلّ يتشكّك بالسفر، وسيمتد هذا الحذر من السفر، أو من آخر العقل، لأنه يتضمّن خوفاً من جسد الفيلسوف نفسه، إلى المثالية الألمانية، وقد كتب يوماً أحدهم سيرة جنسية لكانط، تذكّرنا بطاليس الذي أراد أن يرى النجوم وهو لم ير ما تحت قدميه، كانط الذي يرى ضرورة أن يخضع السفر لمبادئ عقلية محدّدة مثل كل شيء آخر في فلسفته، لربما حتى النجوم التي لم تكن لترصّع سماءه لولا الأمر الأخلاقي.
وليس أمراً مثيراً للاستغراب أن يجد كلود ليفي شتراوس في روسو، هذا الذي سخر من فلسفة لا تسافر، مؤسّس علم الإنسان، باعتبار أنه الوحيد من بين فلاسفة التنوير من وقف ضد مشروع إنسانوية كونية.
سنة 1633، سينتهي رامبراندت من إنجاز لوحته الموسومة بـ"الفيلسوف متأملاً". إن العالم، وحتى عالم الأفكار، يبدأ بالتمييز بين الكينونة والعدم. وبين هذين القطبين، يبحث رامبراندت عن طريقه، والذي لا يقود إلّا إلى الوهم في الأعالي، فالسلالم تنتهي في الظلام، أما المرأة في اللوحة فقد نقول بأنه لولاها لمات الفيلسوف برداً وجوعاً. لقد ظلّ الفيلسوف ملتصقاً في أغلب الأحيان بكرسيه، وحده نيتشه جرّب أقدامه، فكان لا بدّ له أن يغادر الفلسفة!
ويبدو أن التفلسف كان يتطلّب تلك القدرة على الجلوس، وأنه يأنف من الحركة، وقد نقول بأن كرسي الفيلسوف هو أول طلقة أطلقتها الجيوش الاستعمارية، ولم يخطئ من كتب في بيان الحركة الدادائية قائلاً: "أن تجلس للحظة على كرسي، معناه أن تُعرّض الحياة للخطر".