كتاب قاتل حرّر حيفا

26 مايو 2016
+ الخط -
ما إن تفتح كتاب "الكلمة التي صارت مدينة" حتى تصعد إلى وجهك، مثل ينبوع مرح، حيفا الفلسطينية كاملةً بوضوحها الأنيق، وجمالها الطازج غير المنهوب. حرّر جوني منصور كامل حيفا من ميناء وجبل، مستعيداً كامل ذاكرتها، وأزمانها، قبل أن تدهمها رؤى الغزاة المسيانية، لا شيء يبقى خارج التحرير في كتاب جوني معلم التاريخ المخلص والناشط الآن في جمع ذاكرات القرى الفلسطينية المهجّرة. استعاد المعلم هدوء حيفا وسلامها، مستدرجاً ضحكات الحيفاويين والحيفاويات على شواطىء المتوسط، واسترخاءهم الصباحي بملابس النوم على أرائك وأسرّة، واستدعى بالصور والحكايات شرفات بيوت المدينة، ومشافيها وعائلاتها وعمال مينائها وبحارتها وفناراتها وصحفها وأدبائها وأعيادها و سفنها، ومسارحها وسكة حديدها وعرباتها ومدارسها وبرجها. لا يقاوم قارىء الكتاب الرغبة في الصراخ (هذا إذا كان من النوع الذي يقاوم البكاء)، وهو يشاهد ما كان من حيفا، وما بقي منها، كل ما نراه في كتاب حيفا المحرّرة، يقتل ويغيظ، لكنه أيضاً يحيي وُينهض، كيف سيتحمل الفلسطيني رؤية الفارق، وهو يشاهد مرقصاً مُقاماً على أنقاض مدرسة، أو مشفى للأمراض النفسية، منتصباً على بقايا مبنى لجريدة شهيرة؟ كيف سيتحمل قلب الفلسطيني رؤية ساحة الحناطير، وقد صارت ساحة باريس؟ كيف سيفهم ما الذي حدث ولماذا حدث؟ أليس موتاً صغيراً ذلك الفارق؟
من جهة أخرى، تبدو جليةً حقيقة ضرورة كتابة حيفا، وباقي مدن فلسطين صوراً وقصصاً، خصوصاً للأجيال التي تأتي الآن، والتي ستأتي مستقبلاً، في مناخٍ منقوعٍ في طين الهزيمة حتى العنق. قنبلة هذا الكتاب صاروخ هادئ وسيل من التظاهرات الصامتة، مدافع من ذاكرة نار تتأبى على الانطفاء. ليس للفلسطيني المقتول قليلاً والمحاصر سوى أن يستعيد ويتذكّر ويحلم، فالموت الكامل هو غياب الحلم، لا تموتوا بشكل كامل أيها الفلسطينيون، تزوّجوا من الحلم، وأنجبوا كثيرين من أطفال الأمل، هزيمة الجغرافيا حادثة قتل، لكن هزيمة الذاكرة مجزرة، كل هذا يقوله كتاب: (حيفا الكلمة التي صارت مدينة).
الكتاب الضخم صادر في حيفا عام 2015 على نفقة الباحث، بذل فيه جهداً خارقاً للوصول إلى قاع ذاكرة حيفا، بمساندة توثيقيةٍ من أصدقائه ومعارفه وأبناء مدينته، كحنا أبو حنا ورياض فاخوري وعباس شبلاق وغيرهم.
قصة حيفا هي قصة مدن فلسطين كلها، فهذه المدينة التي يصفها جوني منصور بالجنة هي شقيقة يافا وعكا اللتين يصفهما أبناؤها بأراضي الله الشهيّة. كم أحلم بكتابٍ لكل مدينةٍ في فلسطين مثل هذا، كتب تنهض فلسطين من رمادها، تنهضها بالصور والقصص، تنتشل وجهها القديم من البئر الذي ألقي فيه، ليس هذا مستحيلاً، هذا متاح وسهل، يحتاج فقط إلى روح من العزيمة، وجهد كثير، ويحتاج إلى فلسطين داخلنا.
لا أفوّت فرصةً لحضور محاضرات جوني منصور في رام الله عن تاريخ المكان الفلسطيني، المشطور بالصورة والحكاية. من يستمع إلى جوني، وهو يحاضر عن حيفا التي خطفوها، وكسروا معالمها، لا يشعر بالخوف عليها، ثمّة كائن اسمه الأمل يجلس قربه وهو يتحدّث، ثمّة عزيمة على حماية روح المكان، ثمّة مظلوم مصمم على إزالة الظلم، ثمّة شعب حي، يقدم نموذجاً أعلى في البقاء والصمود، على الرغم من كل محاولات التهويد والطمس. جوني منصور أحد مثقفي فلسطينيي الداخل لم يثبتوا فلسطينيتهم، فهذه الهوية لا تثبت بل تعاش، قرّروا أن يكونوا شعلاتٍ دائمة الاشتعال لإنارة الطريق وحفظ الصوت.
قرّر الحيفاويون أن "ساحة باريس" ليست سوى فكرة لا معنى لها في يومياتهم، وتغيير اسم شارع أو ساحة لا يغيّر ما في قلوب الناس، ما زالت الحناطير تسرح وتمرح في ذاكرة المكان، لا قدرةَ لأحدٍ على لجمها.
دلالات
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.