في قريتنا الصغيرة، نواحي مدينة شندي في شمال السودان، كانت تتوزّع بضع شجيرات أكاشيا (أكاسيا/ سنط) وكانت تزداد كثافة كلما توغلنا نحو النيل. رغم ذلك، كنا نسميها "الغابة". لعلّها كانت أكثر كثافة، مثلما كانت الحكاوي تعدّد مظاهر لم يتبقَّ منها إلا مسؤول الغابات في زيّه الخاكي الصارم، يجوب المنطقة على ظهر جواده ويحرر المخالفات ويوعّي الناس حول أهمية الحفاظ على ما تبقّى من أشجار.
جاء في "الغازيتة" (الصحيفة الرسمية) رقم 476 بتاريخ 15 يونيو/ حزيران 1926، أنّ أوّل غابة سودانية محجوزة (محميّة) هي غابة "لكاداوية" في نواحي كوستي على النيل الأبيض، ومساحتها 268 فداناً. لكنّ تاريخ إنشاء مصلحة للغابات والأحراش في السودان يعود إلى عام 1900، حين انتُدب المستر ج. أ. موريل من مصلحة الغابات الهندية لاستكشاف غابات السودان، ولتحديد طرق إدارتها واستغلالها على أسس علمية. حينها، قطع نحو 4600 ميل شمالاً وشرقاً وجنوباً وغرباً خلال نصف عام. وتضمّن تقريره وصفاً دقيقاً لغابات السنط النيلية، وغابات الضهرة، وغابات بحر الجبل ونبات البُردي بالسدود، وغابات الهشاب، والهبيل في كردفان. أمّا طرق الاستغلال، فإنتاج الأخشاب المنشورة، وحطب الوقود، ومنتجات الغابات الأخرى من صمغ ومواد دابغة، وثمار وألياف ومواد طبية وغيرها. وقد أكّد المستر موريل: "من الواضح أنّ غابات السودان بعيدة جداً عن البحر، وتصدير الخشب غير عملي. لكن للسبب نفسه، فإنّ استيراد الخشب سيكون مكلفاً جداً وبدون خشب رخيص الثمن ستكون تنمية البلاد صعبة جدا".
واشتمل التقرير على مقترحات قوانين لحماية الغابات وحقوق الاستخدام المستدام، بصون الغابات عموماً وتلك المحمية خصوصاً من الحرائق والرعي والقطع الجائر، بالإضافة إلى تعيين ضابط غابات مقتدر ليوجّه أعمال الصون والحماية والإنتاج. كذلك أوصى ببناء خط سكة حديد من مدينة الأبيض إلى النيل الأبيض لنقل إنتاج الصمغ العربي للتصدير بدلاً من الجمال التي توجّه لنقل الصمغ من مناطق إنتاجه إلى الأبيض. كذلك، اشتمل تعيين مدير للغابات وإنشاء مصلحة للغابات تدار عبر سياسة واضحة.
تأسست مصلحة الغابات والأحراش في عام 1902 وصيغت أوّل سياسة غابات في عام 1932، ليستمرّ العمل بها حتى عام 1986. وكان تأكيد على ضرورة تسهيل إجراءات حماية ما لا يقل عن 20 في المائة من مساحة السودان، كمحميات. لكنّ واقع الحال يقول إنّ الغابات التي كانت تغطي 34 في المائة من مساحة البلاد تقلصت إلى 18 في المائة في عام 1992، ومنذ ذلك الحين بدأ التناقص لأسباب عدّة، منها الطبيعي ومنها ما جاء نتيجة النزوح البيئي الكبير والحروب وحاجة النازحين إلى الوقود وبناء المساكن، إلى جانب ضعف كبير في قدرة السلطات على حماية الغابات. يُذكر أنّ ثمّة غابات أبيدت كلياً من قبل بعض الجهات الرسمية إمّا للاتجار أو للتوسّع في مشاريع زراعية.
(متخصص في شؤون البيئة)
اقــرأ أيضاً
جاء في "الغازيتة" (الصحيفة الرسمية) رقم 476 بتاريخ 15 يونيو/ حزيران 1926، أنّ أوّل غابة سودانية محجوزة (محميّة) هي غابة "لكاداوية" في نواحي كوستي على النيل الأبيض، ومساحتها 268 فداناً. لكنّ تاريخ إنشاء مصلحة للغابات والأحراش في السودان يعود إلى عام 1900، حين انتُدب المستر ج. أ. موريل من مصلحة الغابات الهندية لاستكشاف غابات السودان، ولتحديد طرق إدارتها واستغلالها على أسس علمية. حينها، قطع نحو 4600 ميل شمالاً وشرقاً وجنوباً وغرباً خلال نصف عام. وتضمّن تقريره وصفاً دقيقاً لغابات السنط النيلية، وغابات الضهرة، وغابات بحر الجبل ونبات البُردي بالسدود، وغابات الهشاب، والهبيل في كردفان. أمّا طرق الاستغلال، فإنتاج الأخشاب المنشورة، وحطب الوقود، ومنتجات الغابات الأخرى من صمغ ومواد دابغة، وثمار وألياف ومواد طبية وغيرها. وقد أكّد المستر موريل: "من الواضح أنّ غابات السودان بعيدة جداً عن البحر، وتصدير الخشب غير عملي. لكن للسبب نفسه، فإنّ استيراد الخشب سيكون مكلفاً جداً وبدون خشب رخيص الثمن ستكون تنمية البلاد صعبة جدا".
واشتمل التقرير على مقترحات قوانين لحماية الغابات وحقوق الاستخدام المستدام، بصون الغابات عموماً وتلك المحمية خصوصاً من الحرائق والرعي والقطع الجائر، بالإضافة إلى تعيين ضابط غابات مقتدر ليوجّه أعمال الصون والحماية والإنتاج. كذلك أوصى ببناء خط سكة حديد من مدينة الأبيض إلى النيل الأبيض لنقل إنتاج الصمغ العربي للتصدير بدلاً من الجمال التي توجّه لنقل الصمغ من مناطق إنتاجه إلى الأبيض. كذلك، اشتمل تعيين مدير للغابات وإنشاء مصلحة للغابات تدار عبر سياسة واضحة.
تأسست مصلحة الغابات والأحراش في عام 1902 وصيغت أوّل سياسة غابات في عام 1932، ليستمرّ العمل بها حتى عام 1986. وكان تأكيد على ضرورة تسهيل إجراءات حماية ما لا يقل عن 20 في المائة من مساحة السودان، كمحميات. لكنّ واقع الحال يقول إنّ الغابات التي كانت تغطي 34 في المائة من مساحة البلاد تقلصت إلى 18 في المائة في عام 1992، ومنذ ذلك الحين بدأ التناقص لأسباب عدّة، منها الطبيعي ومنها ما جاء نتيجة النزوح البيئي الكبير والحروب وحاجة النازحين إلى الوقود وبناء المساكن، إلى جانب ضعف كبير في قدرة السلطات على حماية الغابات. يُذكر أنّ ثمّة غابات أبيدت كلياً من قبل بعض الجهات الرسمية إمّا للاتجار أو للتوسّع في مشاريع زراعية.
(متخصص في شؤون البيئة)