كاليتامى في بلاد "الزومبي"

13 سبتمبر 2014

بتنا نشعر وكأننا عقلاء في بلاد مجانين (Getty)

+ الخط -

تخطينا مرحلة التفكير بعقلنا. هذا ما تبدو عليه أيامنا المشرقية. بتنا غرائزيين، نبحث عمّا يُرضي لحظوياتنا المرحلية، بطريقة بشعة. صار عادياً أن تذبح إنساناً، وتُكمل حياتك كأن شيئاً لم يكن. لسنا في عام 2014، بل عدنا إلى قرون ما قبل التاريخ، حين كان القتل مجرّد فعل "رجولي" غرائزي. صحيح أن الثورات الإنسانوية، بمعناها الفعلي، سلكت الدروب الغرائزية للوصول إلى الركائز العقلية، غير أنها فعلت فعلها في العقل الجماعي للشعوب المُسمّاة "متقدمة"، فانتصرت لمفاهيم الإنسانية على حساب كل حسّ غرائزي. تلك الحالة لم تفعل فعلها فينا، نحن، سكان الشرق.

ضحكنا على أنفسنا، حين احتكمنا إلى عقلانية متصنّعة، لم تقدر على إخفاء جنون غريزتنا في لحظات النشوة السياسية والطائفية والقومية. لم نعد نرى في القوانين، على قلّتها، سوى محاولة ضعيفة لردع غرائزنا، بدلاً من مسارٍ حتميّ من أجل إصلاحنا وتأهيلنا، ورفع مستوانا العقلي. بتنا متحّفزين للحظة قتل العقل فينا، لا لنجدته وأنسَنَته، ليُصبح سيغموند فرويد في حيرة من أمره معنا. لم ينفع معنا التقدّم التقني، حتى الآن. نريد تسخيره لخدمة جنوننا الغرائزي، بدلاً من تطوير عملية بناء إنساننا الداخلي.

لم يعد يوجد في زمننا ما يُتيح لنا أن ننجده بعقل وتفكير صافييْن، بل أضحينا كآلات تنساق إلى القتل والشعور بلذّته واعتبار مشاهد الاعدام والذبح، حالة من حالات الصراع الطائفي. نستلذّ حين يُقتل من هو ليس من طائفتنا أو قوميتنا، ونفرح داخلياً، أو بين أبناء بيئتنا، ونتصنّع الرأفة والإنسانية، حين نناقش هذا الوضع مع آخرين من طوائف وقوميات أخرى، ينتمي إليها القتيل، قبل أن تضحك الشماتة في أعماق قلوبنا، كعنصر سعادة مكمّل، في رقصة جحيمنا الداخلي. في هذه الضوضاء، تختفي النخبة، المفترض أن يقود أَبطالها، كل السائرين عكس التاريخ إلى مستقبل من دون دماء، لا بل يتسابق روّادها للركض نحو الماضي القاسي. لم تعد القوة تكمن في نقل المجتمع من حال إلى آخر، بل في من يرفع شعار التطرف اللامحدود.

في السابق، كان يُمكن أن تقول كلمة واحدة لوقف إشكال كبير، أما اليوم، فلم تعد الكلمات، ولا مجلّدات كتب، تنفع لوقف شلالات الدماء. في الشهور الأخيرة ذُبح صحافي ثم آخر. ذُبح بشر باسم انتمائهم الديني والطائفي، وجنّ بعضهم في لبنان بعد ذبح جندي لبناني على يد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). رأوا فيه اعتداءً سوريـّاً على شخص لبناني، قبل أن يتبيّن، لاحقاً، أن القاتل لبناني أيضاً. وباسم هذا الذبح اعتُدي على سوريين في بيروت. لم نعد في مرحلة يُمكن العودة إليها. سقط خطّ الرجعة. أصبحنا في مرحلة "نحن أم هم".

انتهى كل شيء في الوقت الحالي. بتنا نشعر وكأننا عقلاء في بلاد مجانين. عقلاء وسط أشخاص أحياء ـ أموات. "زومبي" كما يلقّبون. بتنا كاليتامى في بلاد "الزومبي"، كما قيل في فيلم هوليوودي. لا نستطيع تنويرهم إن شئنا، وباتت حياتهم تعني موتنا، وموتنا يعني حياتهم. وإن أردنا قتلهم أصبحنا مثلهم. لا نريد أن نصبح "زومبيين"، لكننا لا نستطيع تركهم يعيثون في إنساننا كل هذا الحقد الداخلي، من القتل والسحل، إلى الاقصاء الممنهج وإلغاء الآخر.

لسنا في جزيرة معزولة، ولا نريد أن نكون شهوداً على موت ما تبقّى من عقل. وحتى ننجح في إدراك قوتنا الداخلية والاستنجاد بعقلنا لإنقاذ شرقنا، على قاعدة أن "التطرّف مرحلي والاعتدال أبدي"، سنبقى نشعر بالوحدة في هذا العالم، وبالعزلة المفروضة على ما تبقّى من عقلٍ في هذا الشرق. سنبقى نشعر بأن العيون الفارغة تزيد بلدنا ظلامية. سنبقى نشعر بالضعف إزّاء الاعصار الآتي. سنبقى كاليتامى في بلاد "الزومبي".

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".