04 أكتوبر 2024
كالعادة كلام مكرّر.. ممل
تخيّل أن مجموعة من البلطجية/ الشبيحة/ قطّاع الطرق يخططون لمهاجمة مزرعة، والاستيلاء عليها. وبدلا من أن يقوم مالكو المزرعة بتقوية الدفاعات والاحتياطات الأمنية لصد الهجوم الخارجي، تجدهم يتعاركون مع أحد العمال في المزرعة، بحجة التأخر دقائق في تحضير العشاء، أو بسبب وجود بعض الأتربة، أو يؤنبونه ويعاقبونه بسبب طريقة ارتدائه الملابس، ويستغرق الجدال ساعاتٍ، حتى يفاجأ الجميع باستيلاء اللصوص على المزرعة، وقتل كل الحرس والإداريين.
تخيّل أن تكون شركة على وشك الإفلاس، بسبب الإدارة الفاشلة وتراكم الديون وتولي الفاشلين المناصب الرئيسية في الشركة، لكن مجلس الإدارة يصر على استخدام الأساليب العقيمة نفسها، والطريقة الحمقاء للإدارة التي سببت المشكلة الكارثية، بحجة الحفاظ على الشركة، فمجلس الإدارة يعتقد أن أي محاولة لإصلاح الهيكل الإداري ستهدم الشركة. ولذلك، الأهم هو التفرغ لعقاب كل من يتقدم بخطة عملية للإنقاذ وفصله، والتنكيل بكل من يقدّم نصيحةً، أو يلفت الأنظار إلى مواطن الخلل.
وعلى مقياس أكبر، تخيل أن دولةً تعاني من خطر التطرّف والإرهاب، ويتعرّض جيشها وشرطتها لهجمات إرهابية خسيسة، تستند إلى تفسيرات دينية متطرّفة. الهجمات لا تتوقف، بل تتطور وتستخدم أساليب حديثة مفاجئة كل مرة، لكن تعامل الأجهزة الأمنية لم يتطوّر منذ عشرات السنين. هذا بالتزامن مع أزمات اقتصادية وزيادة في الأسعار، وترهل مؤسسي، وفشل إداري متراكم، ومشكلات متراكمة. وبدلاً من أن تجرّب الدولة أساليب جديدة، أو تسعى إلى توحيد الجبهة الداخلية، بهدف المساعدة في الانتصار ضد الإرهاب، على الرغم من أنه إجراء معروف في أثناء الأزمات، تجد أن هناك دائما من يصرّ على فتح جبهات جديدة، وصنع عداوات عديدة، تحت شعار "إحنا جامدين أوي ومش بيهمنا حد"، أو نحن لا نحتاج لأي مصالحةٍ أو تهدئةٍ مع "شوية العيال" والمعارضين.
إنه الحديث المتكرّر نفسه الذي أكتبه كل فترة، وكتبه كثيرون قبلي، ويكتبه كثيرون كل يوم. إنه
إذا كنت تتعرّض، فعلاً، لتهديدات وأخطار وهجوم، فعليك بتنظيم الصفوف واستغلال جميع الطاقات، فالإقصاء وإيجاد مزيد من الخصومة، لن يكونا مفيديْن. إذا أردت أن تحارب الإرهاب، فعليك برأب الصدع وتوحيد الجبهة الداخلية أولاً، قبل الحرب وفي أثنائها. وهذا لن يتحقق بالقمع والإقصاء والانتقام وإسكات الأصوات، وإن كان هناك إرهاب وإرهابيون، وتطرّف ومتطرّفون، فلماذا الانتقام من الأصوات المختلفة.
وضع الجميع في سلة واحدة خطأ كبير. وترتكب الأجهزة الأمنية خطأ كبيراً بوضع كل من لديه رأي مختلف، أو يسعى إلى الإصلاح، في الخطورة نفسها، مع من يستخدم السلاح أو يقتل الأبرياء أو يكفر الجميع، فإذا كان هناك إرهابيون في السجون يعتقدون أن العنف وفرض الرأي بالقوة هو الحل، فهناك معهم أيضا إسلاميون لا ينتهجون العنف. وهناك أيضا متعاطفون مع ما يطلق عليه المشروع الإسلامي، ولكنهم لم يستخدموا السلاح قط، وهؤلاء حتى إن كنت أختلف مع أفكارهم، فلهم أيضا حق في الحياة، وحق في التعبير عن رأيهم، طالما لم يكن هناك إجبار أو عنف أو قتل، لكن السجون مزدحمة، ليس فقط بالإسلاميين، ولكن أيضا بليبراليين وعلمانيين وشباب ثوري مختلف مع المسار الحالي. فالأجهزة الأمنية التي تحكم مصر تعتبر أن المجموعات الشبابية التي لديها ملاحظات على بعض الإجراءات، وتعبر عن آرائها سلمياً، كما ينص الدستور، هي أيضا مجموعات إرهابية، يجب معاملتها مثل أي تنظيم إرهابي، فكل من لديه رأي مختلف في مصر خائن وعميل، ويسعى إلى تغيير منظومة الحكم. وبالتالي، إسقاط الدولة، ولذلك هو إرهابي، حتى لو كان يتبع وسائل سلمية للتعبير عن أفكاره الهدّامة.
والمجتمع في العالم كله هو شريك التنمية، وهو الذي يساعد الحكومات والمؤسسات الدولية، ويسد الثغرات ويعالج عجز الحكومات، بجانب دور المدافعة وتنبيه الحكومات للأخطاء، لكن السلطة في مصر والأجهزة الأمنية يعتبرون أن المجتمع المدني أداة في يد الغرب وأعداء الوطن، كما يزعم مندوبو الأجهزة الأمنية في الإعلام وعلى المستوى غير الرسمي. ولا يجب على المجتمع المدني التعامل مع الغرب، فالسلطة والأجهزة فقط هي من يعرف الحقيقة، وهي من تعطي الإذن. ولذلك، المنظمات الحقوقية متآمرة على الوطن، والمجتمع المدني الذي يكشف الأخطاء، ويحذر منها، خائن وعميل، أما المنظمات التي تمجد في السلطة ونظام الحكم وتبرّر الانتهاكات فهي وطنية، ولو كانت تتلقى تمويلا أجنبيا من الجهات الدولية نفسها.
ولا ترى الأجهزة الأمنية التي تحكم مصر أن هناك مشكلة مع الشباب من الأساس، فالشباب المعترض أقلية لا تذكر، ولا أهمية لضجيجهم على الإنترنت، ولا أهمية للحوار معهم أو المصالحة أو تقليل الاحتقان، فليس هناك احتقانٌ يذكر، فالأمن مستتبٌ وكله تمام، ومن يزد إزعاجه، فالسجن مكانه، ولو زاد عدد المسجونين والمعتقلين، لا مانع من بناء عشرات السجون الجديدة.
هذه هي عقيدة الأجهزة الأمنية في مصر، لا تزال تحمل ضغينة ضد ثورة يناير وشبابها
وعلى الرغم من أن الحلول الأمنية غير كافية لعلاج مشكلة التطرّف والإرهاب، فالجميع يتحدّث عن المسارات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية التي يجب أن تتوازى مع الحل الأمني، لكن الواقع عكس ذلك، فالمكوّن الأمني العسكري الحاكم والمسيطر لا يرى جدوى من أي حلول أو أفكارٍ أو مساراتٍ أخرى، وإن كانت هناك محاولاتٌ لتطبيقها فهي روتينية وشكلية، فليس هناك حتى الآن من يرغب في حلّ حقيقي وجذري للانقسام في المجتمع، لأنهم لا يعتقدون أنه يوجد انقسام حقيقي، ولا يعتقدون بوجود أزمةٍ في المجتمع، ولا مشكلات اجتماعية متجذّرة ومتراكمة، ولا يشعرون، حتى الآن، بأهمية تقليل الاحتقان المجتمعي، ولا معالجة أسباب العنف من جذورها، ولا بأهمية الحوار المجتمعي، ولا بضرورة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فكل تلك المفاهيم هي للتعطيل، من وجهة نظرهم.
تنزعج الأجهزة الأمنية الحاكمة لمصر من كلمة "إصلاح" حتى الآن، وتعتبرها محاولات لتدمير المؤسسات، فالإصلاح لدى الأجهزة هو الذي ينبع من داخل المؤسسات التي تعاني من الإهمال والفساد والفشل، على الرغم من أن الحكمة تقول إن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن من هو جزء من المشكلة من الصعب أن يكون صاحب الحل.
ليست الآراء المعارضة ونظريات الإصلاح محاولات لتدمير المؤسسات، كما يزعم القائمون على الحكم، بل إن المعارضة والنقد مطلوبان لتوجيه الأنظار إلى الأخطاء، وبدء السعي لمعالجتها، ولا يجب اعتبار كل من يعترض أو لديه وجهة نظر مخالفة أو يسعى إلى الإصلاح بأنه خائن وعميل، ويجب إقصاؤه أو سجنه أو تشويهه أو تخويفه أو إرهابه.
كل هذا الكلام قديمٌ ومكرّرٌ، ويثير السخرية أو الرثاء أحياناً، وكثيراً ما يصيب بالملل بسبب التكرار. ولكن، يجب النصح والإرشاد والتذكير، حتى تتماسك الجبهة الداخلية، ويتم تقليل الخلافات، وتقليل العداوة مع قطاعات من الشعب المصري، قد تعتبرهم الأجهزة عيالاً أو خونة أو مزعجين، ولكنهم مصريون، كل هدفهم إصلاح وطنهم ونهضته، وليس هناك هذه الأوهام بهدم الدولة أو قلب نظام الحكم أو عودة الملكية أو عودة الخلافة.
ما في هذه المقالة مكرّر، وكتبه كثيرون قبلي مرات، وقد يكون مملاً لبعضهم. أحيانا يكون التكرار مفيداً، وأحيانا يكون كالحرث في البحر. ولكن، لا بد من استمرار الأمل في ظهور عقلاء هنا وهناك، يوماً حتى لو كان بعيدا، فربما نتجنب سيناريوهات مخيفة حدثت لبعض من قبلنا، حتى أدرك العقلاء عندهم أنه يمكن وقف ذلك، واستيعاب الجميع، وبدء حياة جديدة يشارك فيها الجميع بدون عنف أو إقصاء أو تخوين أو تكفير أو رغبة في الانتقام.
عندما يغيب صوت العقل والتسامح والحوار، وقبول الآخر كما هو، يكون هناك مجال واسع للتطرّف والدم والكراهية... والتخلف.