كائن مبارك

22 سبتمبر 2014
كافأت السيدة الهر بسبب إخلاصه (مارتا اوانك/Getty)
+ الخط -
تهدهد رضيعها بين يديها وهي تعدّ للغداء. ترضعه تارةً، تلاعبه وتناغيه، تحدّثه، تبتسم له، وتردد أبياتاً من مواويل تعيدها إلى الماضي. تتذكّر أبيها وأمّها، فتهرّ الدموع من عينيها. يُفلتُ الطفل الحلمة ليشاركها البكاء، فتعود لهدهدته وتلقمه ثديها.
وتارة أخرى، تضعه إلى جانبها لتفرم البقول. تشعل بابور الكاز، تضع القليل من الزيت في الوعاء، تتنقل بين المطبخ والفناء الخارجي لتأمين حاجات الطبخ. يرافق لؤلؤ، الهرّ الصديق المزعج، خطواتها حتى لتكاد تقع لاصطدامها به فتنهره طالبةً منه الابتعاد.
يقترب الهرّ من الطفل الباكي يشمّه ويداعب أطرافه، فيزداد اضطراب الطفل ويعلو صراخه كأنه يطلب من لؤلؤ الابتعاد موحياً بالقول: "ليس هذا أوان اللعب". تصرخ الأم : "اترك الصبي وروح لبرّا. بس يخلص الأكل بندهلك. روح (اذهب)".
يبتعد الهرّ بضعةَ أمتار ويقف متأمّلاً الحركات المكوكيّة للأم وهو يموء بانكسار. انتهت الأم من وضع مكوّنات الطعام في الوعاء وألقت بقطعة من الدهن باتجاه لؤلؤ الذي لم يكن في المكان الذي عهدته فيه، فأخذت تناديه: "بس، بس. بس، بس". لكنه لم يأتِ، فجلست إلى جانب طفلها الذي غرغر فرحاً وهو يحرّك رأسه مقوّساً شفتيه باحثاً عن الحليب. بعد لحظات، أطلّ لؤلؤ ودخل إلى المطبخ وألقى من فمه شيئاً إلى جانب الأم وغادر مسرعاً.
وضعت الطفل في مهده وانتفضت مقتربةً تتلمّس ما وضعه الهرّ، فإذا هو سمكة. فقالت باندهاش: "سمكة، معقول!". لم تكن قد استعادت روعها حتى دخل لؤلؤ من جديد واضعاً سمكة أخرى بين يديها. أصيبت المرأة بالذهول وقالت: "يا الله! شو عم بيصير؟ (ماذا يحدث؟)". فأصدر الهرّ مواءً غريباً وخرج كالريح، فانطلقت خلفه لمعرفة مصدر هذا الصيد الغريب. ـ "اتركها من تمّك (فمك)"، قالت الأم للهرّ الذي انصاع من دون تردّد معيداً صيده الثالث إلى الوعاء رافعاً رأسه باتجاهها كمن ينتظر أوامر أخرى. نبَّهَ الصوت الجارة فخرجت مستفسرة.
كانت قد نظّفت السمك ووضعته في مكان عالٍ فوق البركة وذهبت لإيقاد النار، وذلك كان وقتاً كافياً ليفعل لؤلؤ ما فعل. دفعت الأم ثمن السمك لكن الجارة أعادت المال بعدما استمعت إلى ما فعله لؤلؤ، وأصرّت على أن تكون تلك مكافأة له على إخلاصه الفريد، فهو "كائنٌ مبارك"، كما تمتمت، مرفقةً قولها بأدعيةٍ أثيرة. بدا المشهد برمته جميلاً.
... شبّ الطفل وتزوّج ومرّت سنون كثيرة وما زال يحاول تعلُّمَ أساليب أبويه في التربية ويستجدي بِرَّ لؤلؤ بأصحابه.
المساهمون