قبل بدء مونديال روسيا 2018، صدر قرار عن محافظ بيروت، زياد شبيب، بمنع تعليق الأعلام الأجنبية في العاصمة اللبنانية. القرار يستند إلى قانون لبناني قديم، لكن لم ينفذ يوماً، أقله منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975 ومعها الفوضى. لم يختلف الوضع في هذا المونديال بالرغم من القرار، فالشوارع بشرفاتها وأعمدتها وسياراتها تكاد تنافس المدن الروسية في زينة المونديال ما بين فرق كبيرة معتادة وفرق عربية وإقليمية طارئة وسريعة التوديع للبطولة العالمية الأكبر في كرة القدم.
أحد زواريب (أزقة) بيروت في محلة الزيدانية، خير تعبير عن مخالفة هذا القرار، إذ تحكمه رابطتان؛ رابطة البرازيليين ورابطة الألمان.
هناك، وفي افتتاح المونديال لم تكن مباراة البرازيل أو ألمانيا، لكنّ تلك الليلة المشهودة حضرتها فرقة زفة ضربت بالطبول ونفخت بالمزامير ورقصت الدبكة والسيف والترس بالترافق مع إطلاق كثيف للمفرقعات، كحفل افتتاح لمونديال الزاروب "ينافس" في فعالياته حفل الافتتاح الرسمي في ملعب "لوجنيكي". ففي هذا اليوم كلّ أربع سنوات تظهر الزينة الهائلة تمثلها أعلام للبرازيل من جهة الزقاق الشمالية حيث السنترال (مركز الاتصالات والإنترنت) لمالكه رئيس رابطة البرازيل، سلطان يتيم، وأعلام لألمانيا في الجهة الجنوبية حيث المقهى الذي يستضيف المباريات عبر شاشة توضع على جانب الطريق الذي لا تتوقف السيارات عن المرور فيه طوال النهار، وهو المقهى الذي يملكه رئيس رابطة الألمان، أحمد عبد الله. وكلّ جهة من الجهتين تضم علماً عملاقاً للمنتخب الذي تنتمي إليه، يتدلى كلّ منهما في الوسط ممتداً بطول مبنى كامل مربوطاً من الأعلى والأسفل من الجانبين.
لكنّ المشهد في المباراة الحاسمة لألمانيا أمام السويد كان أكثر إثارة بكثير. فبالرغم من حضور نحو خمسين شخصاً في الشارع المقفل وقت المباراة أمام شاشة المقهى الكبيرة، انحبست الأنفاس بينما كانت النتيجة تشير إلى التعادل الإيجابي، ومع تسديدة طوني كروس في المرمى السويدي قبل نهاية المباراة انفجر الحيّ بأكمله، وطارت الكراسي التي يجلس عليها الشبان في الأجواء لترتطم بالأرض على وقع صراخهم الفوضوي في كلّ اتجاه، لتتبعها الهتافات والأبواق والمفرقعات.
بينما كانت تلك المباراة تمضي لصالح السويد تلقى المشجعون الألمان كثيراً من "التزريك" (الإغاظة) من منافسيهم البرازيليين. لكن، ما إن انتهت بالفوز الألماني حتى تلقى "نائب رئيس" الرابطة البرازيلية، محمد أبو العينين، الضرب انتقاماً من كلّ ذلك التزريك: "أكلنا قتلة... لكن عن مزاح" يؤكد لـ"العربي الجديد".
عند نهاية تلك المباراة أيضاً وزع عبد الله مشروبات مجانية على الجميع. مثل هذا التوزيع كثيراً ما يحدث، ولو من غير مراهنة، إذ يمكن أن يتعهد أحد الشبان بتقديم الكوكتيل (فواكه مع عصير فواكه وقشدة وعسل ومكسرات) للجميع على حسابه الشخصي، إذا ما فاز منتخبه، بحسب عبد الله.
منذ ثماني سنوات، وتحديداً في مونديال جنوب أفريقيا 2010، بدأ هذا الزقاق طقسه الاحتفالي هذا. يومها فتح عبد الله مقهاه في الحي الذي يسكن فيه، وبدأت المنافسة بينه وبين يتيم تصبغ الزقاق بأكمله بعلمي ألمانيا والبرازيل حصراً. يقول أحد مشجعي المنتخب الإيطالي عنه وعن رفيقه أمام المقهى: "نحن إيطاليان ولا نشجع أحداً هذا العام... نحن مع اللعب الجميل فقط"... يستدرك: "المهم أن نكون ضد ألمانيا".
عند الثانية عشرة والنصف ظهراً في طقس حار وازدحام سير كبير في الشارع الذي لا يسمح بمرور أكثر من سيارة واحدة، ينادي جار من محله القريب في الجهة الأخرى، على الشبان المتجمعين أمام المقهى: "اليوم سنمزق شباك صربيا"، يردّ عليه آخر: "أخبرني أولاً، كم مرة سيقع نيمار أرضاً؟".
هذه المنافسة ليست طارئة على سكان الزقاق ومرتادي المقهى، فهم ينقلون المنافسة الجارية طوال أيام العام سواء في البطولات الأوروبية الكبرى، أو في بطولة الدوري المحلي، إلى المونديال. إذاً، هل تنقسمون على النجمة والأنصار والعهد؟: "لا أحد مع العهد... 90 في المائة نجماويون والبقية مع الأنصار يقول عبد الله". يردّ مشجع إيطالي أنصاري: "ليس إلى هذا الحدّ... لكنّ الأكثرية مع النجمة فعلاً". يتابع أنّهم لا يشاهدون المباريات في المقهى بل من المدرجات في أيّ وقت جرت.
مع خروج المنتخب الألماني من المنافسات، الأربعاء الماضي، بادر مناصروه، في الزاروب البيروتي، من تلقاء أنفسهم إلى إزالة الأعلام بما فيها العلم العملاق، والاحتفاظ بها إلى المونديال المقبل، فالخاسر في مونديال قد يجد التعويض في مونديال آخر، وهكذا تسير الحياة هناك، بحماسة دائم لكن بوفاق بعيد كلياً عمّا قيل إنّه حدث في حيّ السلّم في الضاحية الجنوبية لبيروت، وأسقط قتيلاً بالرصاص على خلفية احتفال "برازيلي" أغضب "ألمانياً".