كآبة لا تنقشع

21 فبراير 2015
+ الخط -

يلوح لي أن الناس في عالمنا العربي ما عادت تضحك، بل استوطنت المرارة نفوسهم وتفصيلات حياتهم، وأرخى العبوس ظلاله على وجوههم، وغادرتهم روح المرح والفكاهة، منذ زمن طويل. والمعروف أن الفكاهة لا تزدهر، إلا في المجتمعات المتنعمة، أو التي تعيش عيشاً طبيعياً، كما كانت الحال قديماً في دمشق والقاهرة وبغداد. أما في المجتمعات المضطربة، فتزدهر النكتة السياسية اللاذعة، أو السخرية المرة، وهي أحد ضروب الفكاهة التي تتضمن وظيفة اجتماعية، هي النقد المباشر. وتهدف السخرية، أحياناً، إلى التقويم الاجتماعي، أو إلى القصاص غير المباشر، لكن في لغة فنية ضاحكة. وهناك نوعان من السخرية: الأول يسعى إلى التعريض بالآخرين، أو ما يسمى التهكم المؤلم، والثاني يبحث عن الكشف والإضحاك معاً، وهو أكثر إيلاماً. وثمة سخرية مُرّة، تستمد مرارتها من البؤس المادي، أو من الإحباط السياسي، أو من ملوحة الحياة اليومية.

من علائم الاضطراب في الحياة الثقافية العربية غياب المجلات الفكاهية الساخرة. ولعل هذا الوجوم الذي يكلل المنطقة العربية بأسرها، وينيخ بكلكله عليها، يفسر غياب الظُرف والفكاهة عن الأدب والصحافة، وتواري الظرفاء والأدباء الساخرين. وفي هذا الخواء الذي يلف الحياة العربية، على الرغم من ومضات الإبداع التي لا تنقطع هنا وهناك، فإن من "المضحك المبكي" أن نقارن كيف كانت العواصم العربية تضج بالمجلات الفكاهية الساخرة، وكيف صارت الحال اليوم؛ فلا توجد في العالم العربي أي مجلة ضاحكة فعلاً، كأن قحطاً أصاب هذا النوع من الكتابة، بعدما أينع نحو مئة جريدة ومجلة فكاهية في القرن المنصرم، وفي أواخر القرن الذي سبقه. وكان أول الغيث جريدة "أبو نظارة" التي أصدرها يعقوب صنّوع في القاهرة في سنة 1876 (السنة التي صدر فيها أول دستور عثماني)، ثم "التنكيت والتبكيت" التي أسسها عبد الله النديم، في القاهرة أيضاً، في سنة 1881. ثم كرّت سُبَّحة هذا الصنف من المجلات، مثل الدبور (يوسف مكرزل – لبنان)؛ تراحيل (بهاء الدين الطباع – دمشق)؛ حط بالخرج (محمد عارف الهبل – دمشق)؛ الخازوق (بسيم مراد – العراق)؛ أبو قردان (كامل تادرس – مصر)، على كيفك (فهمي الحفار – دمشق)؛ العصا لمن عصى (نجيب جانا – فلسطين)؛ كناس الشوارع (ميخائيل تبسي – العراق)؛ المضحك المبكي (حبيب كحالة – دمشق)؛ جراب الكردي (توفيق جانا – دمشق) وغيرها كثير جداً.

الظُرف والفكاهة والسخرية ثالوث الأدب الضاحك، وهو وليد مجتمع التنعم والتأنق والقلق والحرية في آن. والفنون العظيمة، كالعمارة والرسم والموسيقى والمسرح، لم تنشأ إلا في المجتمعات المترفة اللاهية، واللاهثة، في الوقت نفسه، وراء أسئلة الوجود وأجوبة اليقين. والمجتمعات العربية التي عاش في عصورها القديمة أدباء ظرفاء، أمثال الفرزدق والجاحظ وابن الرومي وأبو نواس وأبو الشمقمق وجحا وابن سودون، هؤلاء أوقفوا بعض أدبهم ونقدهم على السخرية من الخلفاء والوزراء والقواد والقضاة والوعاظ والمفتين والمحدثين والنحويين والبخلاء والطفيليين والشيوخ، ومن أي شيء تقريباً، وأبدعوا تراثاً هائلاً من المصنفات العجيبة والكتب الغريبة، من "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني حتى "هز القحوف" ليوسف الشربيني، ومن "أخبار الحمقى والمجانين" لابن الجوزي حتى "الفاشوش في حكم قراقوش" للأسعد ابن مماتي. غير أن القرن الحادي والعشرين يكاد يطوي سنواته الأولى، وهو يجر وراءه كآبة لا تنقشع، وعبوساً مدلهماً. وهذه الكآبة توشك أن تغلف بسوادها كل شيء، حتى ليعجز السحرة عن ابتداع ضحكة طويلة وعميقة حقاً. فاندثار الأدب الضاحك في العالم العربي إنما هو تعبير جلي عن الأهوال، وعن ثقل الأحوال التي ينوء تحتها العرب في دُورهم وديارهم، وفي ليلهم ونهارهم، حتى صرنا من صعوبة البكاء نضحك.

دلالات