قيعان الحال الفلسطيني

02 ديسمبر 2014

شبان فلسطينيون يترقبون قوات الاحتلال في القدس (21 نوفمبر/2014/Getty)

+ الخط -

بين التوجه إلى المؤسسات الدولية، ومحاولات الخروج من قمقم الاحتلال بالانتفاض عليه، وشن عمليات مقاومة فردية، يراوح الوضع الوطني الفلسطيني، خصوصاً القيادي منه، في قيعان "استاتيكه" الخاص، من دون توجه فعلي نحو استعادة زمام مبادرة نهج في الكفاح الوطني، عماده انتهاج أساليب وتكتيكات واستراتيجية التحرر الوطني، حيث يبدو أن "طلاقا بائنا" قد حدث بين السلطة التي ورثت منظمة التحرير منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، وذلك النهج من الكفاح المسلح والمقاومة الشعبية التي تجلت في انتفاضتي 1987 و2000، وهو يحاول الإقلاع؛ وإن بأشكال وأساليب مختلفة الآن، في ما أصبح يسمى "الانتفاضة الثالثة"، التي يبدو أن السلطة الفلسطينية تحول دونها بالتنسيق الأمني مع الاحتلال.

هذا "الإمساك" أو الاستمساك باستقرار "الوضع الأمني" من مسببات التدهور المريع الذي وصلت إليه الأوضاع الفلسطينية، وهي تتحول على إيقاعات التدهور والتهتك في الأوضاع الإقليمية، إلى حد استدعاء تدخلات خارجية، غاب معها الحضور القوي للقضية الفلسطينية من على أجندة القوى المؤثرة والفاعلة في دفع الأمور إلى الأمام. وبدلاً من ذلك، بات الوضع الوطني الفلسطيني يراوح في الأماكن نفسها التي جعلت من استراتيجية التحرر الوطني الفلسطيني رهينة تكتيكات متبدلة وغير ثابتة، من قبيل جدية قرار السلطة الفلسطينية التوجه إلى مجلس الأمن الدولي، بطلب تحديد إطار زمني لإنهاء الاحتلال، كما في تلويحها بالانضمام للمحكمة الدولية. ما يدفع للاعتقاد أن القيادة الفلسطينية غير مقتنعة بهذا التوجه؛ على الرغم من وجود عشرات القرارات الدولية الداعية إلى إنهاء الاحتلال، وغير المفعّلة، وكان أحرى بالسلطة الفلسطينية أن تدفع باتجاه تفعيلها، والمطالبة بتنفيذها، وبتكتيل وضع إقليمي ودولي ضاغط على حكومة الاحتلال. وفيما يتعلق بالدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، جاء اعترافها مشروطا بإقامة الدولة من خلال المفاوضات، وإضافة شرط تجميد التحرك الفلسطيني في مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية. ولهذا، ربما بدا التلكؤ الفلسطيني في هذا الاتجاه، نوعاً من الاستجابة غير المعلنة.

داخلياً، لا يبدو حال السلطة والقيادة الفلسطينية أحسن حالاً، فما يجري من محاولات انتفاض، يترافق مع عمليات فردية غير متوقعة، يظللها التنسيق الأمني مع الاحتلال، لا يشير إلى إمكانية أن تتصدى القيادة الفلسطينية لمهامها المفترضة، أو توجيه أية فعاليات شعبية ضد الاحتلال؛ فقد أثبتت تجربة الفترة القريبة الماضية أن اعتبارات السلطة، وضمنها القيادة، أو العكس؛ تترجّح على محاولة الحد من امتداد أي "حريق انتفاضي"، في الضفة الغربية أو القدس، للإبقاء على "ستاتيك" العلاقة بين السلطة والاحتلال، وكأن هذا هو الوضع الطبيعي، وبالتالي، لا داعي لتغيير المعادلة القائمة اليوم، والتي تميل، بالكامل، لصالح الإسرائيليين..

وفي كل الأحوال، لا تشكل العمليات الفردية غير المنظمة، مهما تكن بطولية، نهجاً في المقاومة، بل هي أقرب إلى عمليات انتقام، جراء فورة أو طفرة نفسية ومعاناة فردية، وربما إحساس من الفرد بمعاناة الجماعة. من هنا، وجب التمييز بين المقاومة عملاً جماعياً منظماً، يقوم على انتهاج تكتيكات واستراتيجيات كفاحية، تقرها منظمات حزبية وسياسية، لها أذرعها التنظيمية والجماهيرية وقواعدها الشعبية، وبين العمل الفردي المقاوم الذي لا يقوم سوى على جهد فردي غير منظم، وفي حال استمرار هذا الشكل من العمليات غير المنظمة، لن يكون من الصعب مواجهة فوضى العمليات، وإن كانت تخلق نوعاً من الإرباك، فمع الوقت يمكن تنظيم مواجهتها بتكثيف التنسيق الأمني القائم بين السلطة والاحتلال. الأمر الذي يفقد، مع الوقت، العمل المنظم جدواه وبريقه الكفاحي، كونه يتم على أسس تنظيمية وسياسية وعسكرية متساوقة ومنسجمة مع نهج في العمل الكفاحي، يخدم أهداف التحرر الوطني، وتلك غاية العمليات المسلحة، وفعاليات الانتفاض الشعبي المنظم تحت إشراف وقيادة نخبة أو نخب متمرسة في الكفاح الوطني التحرري، وهذا ما يتناقض جذرياً والحال الراهن من السلطوية والزبائنية والمصالح الأنانية التي باتت العنصر الغالب والأعم في سلوك الوضع القيادي الفلسطيني الراهن. 

وبذا، يبدو أن الحال الفلسطيني، اليوم، بات يداور ويناور عند حدود مقاربةٍ هي أشبه إلى تصفية كامل الإرث الكفاحي الذي درجت عليه منظمة التحرير الفلسطينية، منذ قبل إنشائها، وصولاً إلى مرحلة ما بعد أوسلو، وبدء عمل النظام السياسي الذي سرعان ما هوى صريع الخلافات والانقسامات التي ما تزال تفعل أفاعيلها في شرذمة الواقع السياسي، ليس للنظام السياسي فحسب، بل ولكامل مكوناته، في ظل محاولات هجينة، تعمل على استنباط أشكال في العمل السياسي والجماهيري والتنظيمي، تتباعد عن ذلك الإرث الكفاحي، وتتقارب مع "واقع الهجنة" التي باتت تسم الوضع الوطني الفلسطيني، وهو يشهد لوجود نوع من "التصفية"، ولو بالمعنى الذي بات واضحاً أنه يتمحور حول ما يمكن توصيفه بـ  "التخلي القيادي" عن قيادة المهام الكفاحية الراهنة التي تستدعيها المرحلة الآن.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.